فهذا ظاهر الآية ويجب أن يعلم : أن الآية إِنما تدل على المحاسبة بما في النفوس سواء أُظهر أو أُخفي ، وأما كون الجزاء في صورتي الإخفاء والاظهار على حد سواء ، وبعبارة اخرى كون الجزاء دائراً مدار العزم سواء فعل أو لم يفعل وسواء صادف الفعل الواقع المقصود أو لم يصادف كما في صورة التجري مثلاً فالآية غير ناظرة الى ذلك .
وقد أخذ القوم في معنى الآية مسالك شتى لما توهموا أنها تدل على المؤاخذة على كل خاطر نفساني مستقر في النفس أو غيره ، وليس الا تكليفاً بما لا يطاق ، فمن ملتزم بذلك ومن مؤول يريد به التخلص .
فمنهم من قال : إِن الآية تدل على المحاسبة بكل ما يرد القلب ، وهو تكليف بما لا يطاق ، لكن الآية منسوخة بما يتلوها من قوله تعالى : لا يكلف الله نفساً إِلا وسعها الآية .
وفيه : أن الآية غير ظاهرة في هذا العموم كما مر . على أن التكليف بما لا يطاق غير جائز بلا ريب . على انه تعالى يخبر بقوله : « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » الحج ـ ٧٨ ، بعدم تشريعه في الدين ما لا يطاق .
ومنهم من قال : ان الآية مخصوصة بكتمان الشهادة ومرتبطة بما تقدمتها من آية الدين المذكورة فيها وهو مدفوع بإِطلاق الاية كقول من قال : إِنها مخصوصة بالكفار .
ومنهم من قال : إِن المعنى : إِن تبدوا بأعمالكم ما في أنفسكم من السوء بأن تتجاهروا وتعلنوا بالعمل أو تخفوه بأن تأتوا الفعل خفية يحاسبكم به الله .
ومنهم من قال : ان المراد بالاية مطلق الخواطر الا أن المراد بالمحاسبة الإخبار أي جميع ما يخطر ببالكم سواء أظهرتموها أو اخفيتموها فان الله يخبركم به يوم القيامة فهو في مساق قوله تعالى : « فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ » المائدة ـ ١٠٥ ، ويدفع هذا وما قبله بمخالفة ظاهر الاية كما تقدم .
قوله تعالى : فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ، الترديد في التفريع بين المغفرة والعذاب لا يخلو من الاشعار بأن المراد بما في النفوس هي الصفات والاحوال النفسانية السيئة ، وان كانت المغفرة ربما استعملت في القرآن في غير مورد المعاصي أيضاً لكنه استعمال كالنادر يحتاج الى مؤنة القرائن الخاصة . وقوله : إِن الله تعليل راجع الى مضمون الجملة الاخيرة ، او الى مدلول الآية بتمامها .