ارتقى السفّاح منصّة الحكم فضحكت له الدنيا بعد تقطيب وأقبلت عليه بعد إدبار ، ولكن هل يسلم المرء ـ وإن أقبلت عليه الدنيا بأسرها ـ من نوازل الهم؟ أصبح ابن عبّاس بين همّين همّ تطهير البلاد من الأمويّين لتخلص له الأمّة ، وهمّ المنافسة على العرش من بني علي ، العرش الذي لم ترسخ أسسه بعد ، ولم تثبت قوائمه ، وما أسرع ما يميد إذا عصفت أعاصير الوثبات عليه ، ولم يسترح بعد من همّه الأوّل حتى أقلقه الثاني ، وكيف يأمن من العلويّين ، وأبو عبد الله الصادق عليهالسلام إمام مفترض الطاعة عند شطر من هذه الامّة ، وعند كثير من أجنادهم الذين قلبوا بهم عروش بني مروان ، وهل قتلوا أبا سلمة الخلاّل إلاّ لأنهم أحسّوا منه أنه يريدها لبني علي ، وأن البيعة للسفّاح كانت بالغلبة عليه وإعجاله عليها.
وكيف يأمن ألاّ ينافسه العلويّون ومحمّد بن الحسن كانت له البيعة يوم الأبواء ، وهو الذي صفّق السفّاح والمنصور بيديهما على يده ، وهو الذي كان المؤهّل للعرش الذي وثبوا عليه ، وما زالت تلك الأماني تخالج نفسه ولأيّ شيء اختفى يوم ظهر السفّاح؟ أليس الليث قد يربض للوثبة؟
حاول ابن عبّاس أن يستريح من هذا الهمّ فأرسل خلف الصادق عليهالسلام إلى الحيرة ليوقع به وإن لم يظهر ما يتخوّفه على سلطانهم ، فلما وصلها ضيّق عليه ، ولكن لمّا لم يجد عنده هاتيك المخاوف سرّحه إلى المدينة راجعا والهواجس تساوره.
ثمّ صار يتطلّب ابني عبد الله بن الحسن ، وهما مختفيان خوفا من بطشه وكلّما جدّ في العثور عليهما جدّا في الاختفاء.
انقضى دور السفّاح القصير والصادق عليهالسلام وادع في المدينة وابنا الحسن خلف ستور الخفاء ، وما جاءت أيام المنصور إلاّ واشتدّ على العلويّين ،