وإنّما الكلام في الكبرى التي اعتمد عليها المشهور ، فنقول :
وهذه الكبرى يفترض المنطق أنّها عقليّة ، ومن القضايا الأوّليّة في العقل ، ومن هنا عدّ المتواترات في القضايا الضروريّة الستّ التي تنتهي إليها كلّ قضايا البرهان.
ذهب المشهور تبعا للمنطق الأرسطي أنّ هذه الكبرى ( إخبار جماعة كثيرة يمتنع اتّفاقها على الكذب ) من القضايا العقليّة البديهيّة والضروريّة والأوّليّة التي لا تحتاج إلى البرهان والدليل ولا إلى إعمال الفكر والنظر. ولذلك عدّ المنطق الأرسطي المتواترات من جملة القضايا الستّ الأوّليّة التي يعتمد عليها كلّ برهان ودليل استنتاجي. وهذه القضايا الستّ هي : الأوّليّات والمشاهدات والتجريبيّات والمتواترات والحدسيّات والفطريّات.
فكلّ برهان ودليل لا بدّ أن يرجع إلى إحدى هذه القضايا ؛ ليكون الاستدلال به صحيحا ومنتجا لقضيّة يقينيّة موضوعيّة على أساس القياس الاستنباطي.
وهذه القضايا نفسها لا تحتاج إلى دليل وبرهان ، بل العقل البشري بفطرته التي خلق عليها يؤمن ويصدّق بهذه القضايا بمجرّد الالتفات إليها ، من دون حاجة إلى إعمال الفكر والنظر.
وعليه ، فكبرى القياس لا بدّ أن تعود إلى إحدى هذه القضايا الستّ ؛ ليكون القياس الاستنباطي منتجا لليقين ، وإلا فلا يكون منتجا إلا الظنّ فقط.
وهذا التفسير المنطقي للقضيّة المتواترة يشابه تماما تفسير المنطق نفسه للقضيّة التجريبيّة التي هي إحدى تلك القضايا الستّ ، فإنّه يرى أنّ علّيّة الحادثة الأولى للحادثة الثانية ( التي ثبتت بالتجربة عن طريق اقتران الثانية بالأولى في عدد كبير من المرّات ) مستنتجة من مجموع مقدّمتين :
إحداهما بمثابة الصغرى وهي أنّ اقتران الحادثة الثانية بالأولى في عدد كبير من المرّات ، والأخرى بمثابة الكبرى وهي أنّ الاتّفاق لا يكون دائميّا.
وتفسير المشهور للقضيّة المتواترة يشبه تماما تفسيرهم للقضيّة التجريبيّة في المنطق التي هي إحدى القضايا الستّ الأوّليّة ، فالمنطق يرى أنّ استنتاج العلّيّة من اقتران الحادثتين معا مرّات عديدة معتمد على مقدّمتين :