من أصناف شتّى من الناس ومن مناطق مختلفة ومن مذاهب دينيّة وسياسيّة وطبقات اجتماعيّة وإلى غير ذلك ، فكون اتّفاق الجميع على مصلحة الكذب والواقع في خصوص هذا الخبر صدفة واتّفاقا من دون أن يجمعهم على الكذب أمر واحد بعيد في نفسه ، بل غير معقول ؛ لأنّه يعني أنّ الصدفة تتكرّر دائما أو غالبا أو كثيرا جدّا.
فيكون ذاك المبرّر وهو كون المتكلّم قد صدر منه هذا الكلام هو العلّة التي تبرّر اتّفاقهم على الإخبار ، لا الكذب والمصلحة في الإخفاء ، رغم اختلافهم الشديد من جميع النواحي والجهات الذي يقتضي اقتران هذه المصالح المختلفة معا صدفة واتّفاقا.
وبهذا ظهر أنّ المنطق الأرسطي يؤمن بالقضيّة المتواترة كإيمانه بالقضيّة التجريبيّة بأنّها تعتمد على أحد الأقيسة المنطقيّة المؤلّف من المقدّمتين المشار إليهما سابقا.
ويؤمن أيضا بأنّ القضيّة المستنتجة التي حصل اليقين بها هي قضيّة مستبطنة في المقدّمتين : إمّا لأنّها أصغر ، أو لأنّها مساوية. وبالتالي ليست أكبر من المقدّمات.
هذا خلاصة رأي المشهور والمنطق الأرسطي.
ولكن الصحيح أنّ اليقين بالقضيّة التجريبيّة والمتواترة يقين موضوعي استقرائي ، وأنّ الاعتقاد بها حصيلة تراكم القرائن الاحتماليّة الكثيرة في مصبّ واحد.
فإخبار كلّ مخبر قرينة احتماليّة من المحتمل بطلانها لإمكان وجود مصلحة تدعو المخبر إلى الكذب ، وكلّ اقتران بين حادثتين قرينة احتماليّة على العلّيّة بينهما ، ومن المحتمل بطلانها ـ أي القرينة ـ لإمكان افتراض علّة أخرى غير منظورة هي السبب في وجود الحادثة الثانية ، غير أنّها اقترنت بالحادثة الأولى صدفة ، فإذا تكرّر الخبر أو الاقتران تعدّدت القرائن الاحتماليّة وازداد احتمال القضيّة المتواترة أو التجريبيّة ، وتناقص احتمال نقيضها حتّى يصبح قريبا من الصفر جدّا ، فيزول تلقائيّا لضآلته الشديدة.
والصحيح أنّ اليقين المستنتج من القضيّتين المتواترة والتجريبيّة عبارة عن يقين موضوعي استقرائي مبني على مبدأ حساب الاحتمالات الذي يبتني على أنّ تراكم القيمة الاحتماليّة الكثيرة لها مصبّ واحد فقط.
وتوضيح ذلك : أمّا في القضيّة التجريبيّة فقد تقدّم أنّ اقتران الحادثة الثانية بالأولى يشكّل قرينة احتماليّة على أنّ هذا الاقتران بينهما إنّما هو لأجل أنّ الحادثة