اعلم انّ كلّ فقرة من هذا الكلام وردت فيه أحاديث كثيرة ومرّ ذكر بعضها سابقاً في ضمن بيان فضل المساجد وغيره ، وليعلم انّه لابد للممكنات المحتاجة من مكان كالدار والقصر والعرش والكرسي لكن الله الغنيّ بما انه لا يحدّه مكان ، وبما انّ نسبة جميع الأماكن إليه سواء جعل لطلاّب العبادة والمعرفة والقرب إليه أماكن ، كما في الملوك فإنّ لهم عرشاً يظهرون كمالهم وعظمتهم للناس عليه.
فكذلك الله تعالى ( من دون تشبيه بهم ) فإنّ له عروشاً ولم يحتج إلى أيّ منها ، فمن عروشه جميع الممكنات فإنّها مظهر قدرته وعظمته ومحل استقرارهما ، ولو نظرت في كلّ ذرّة من ذرّات الممكنات لتراءت لك صفات كماله تعالى ، فانّك ترى ظهور قدرته فيه وظهور علمه وحكمته ولطفه ورحمته ، لا بالمعنى الباطل الذي يذهب إليه الملحدون بانّه تعالى متحد مع جميع الأشياء وهو تعالى كلّ شيء ( تعالى شأنه عمّا يقولون ).
بل انّه أظهر آثار صفات كماله في كلّ الأشياء ، وانّك ترى في كلّ شيء آلاف الآثار من القدرة والعلم واللطف والرحمة ، وجعل تعالى من بين عروشه عرشاً أعظم من غيرها لظهور آثار قدرته فيه أكثر من غيره ، ودعا خواص أحبّائه إلى مشاهدته والاّ فنسبته تعالى إلى هذا العرش وإلى السماء والأرض والبحار والصحارى سواء.
ومن العروش أيضاً عرش محبته ومعرفته ، أي انّه اختار قلوب محبيه وجعلها محلّ عظمته ومعرفة صفات كماله وجلاله وجماله ، كما ورد من انّ ( قلب المؤمن عرش الرحمن ) ، وجعل أماكن أُخر لطالبي عبادته وقربه وجعلها مهبط فيضه اللامتناهي ورحمته الكثيرة ، انّ ديوانه الأعظم هو العرش الأعلى الذي أجاز لخاص الخاص الدخول فيه.