المتفوّق على بقيّة الخلق ، بما أشرت إليه من استعدادات ذاتية ، يزيدها الباري تعالى من فيضه ورحمته ، كما جاء في شأن طالوت عليهالسلام عندما نصّ عليه نبيّ من أنبياء بني إسرائيل ، فقوبل تعيينه بالاحتجاج ، غير أنّ نبيهم ردّ عليهم في قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (١) ; لذلك تحمّلت تلك السلسلة الطاهرة من الناس ، مسؤولية إلهية في حفظ شرائع أنبيائها ، بعد ما أتمّ لها الخالق تعالى إمكانيات تحمّل تلك المسؤولية الجسيمة.
إذاً ، نستطيع أنْ نجزم ، بأنّ اللطف الإلهي شاء أنْ تتواصل حلقاته ، وتتوالى إفاضاته على العالمين رحمة وخيراً ، فلم تعدم منه أمّة من الأمم ، ولا كان مخصوصا بعصر دون آخر ، فكان باباً من العطاء المتواصل ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن هنا فهمت أنّ معنى قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٢). يتّفق تماماً مع قوله تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) (٣). فالآية الأولى جاءت مجملة للسبب الذي جعله الله تعالى بينه وبين خلقه ، وجاءت الآية الثانية شارحة له ، فقسمت المرحلتين ، وأعني بهما مرحلة التنزيل ومرحلة الحفظ إلى مراتب ووظائف هي كالآتي :
أمّا فيما يخصّ مرحلة التنزيل ، فقد جعل الأنبياء والرسل أدواة تبليغ عنه ، وعناصر نشر تعاليمه وبثّها في المجتمعات التي يراد بناءها على أسس الانقياد لله تعالى وطاعته وفق أحكامه المنزلة.
_________________
(١) البقرة : ٢٤٧.
(٢) الحجر : ٩.
(٣) المائدة : ٤٤.