ثم انتقل من هذا إلى تبرئة نفسه العالمة بالحق عن قول ما ليس بحق فقال :
(ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) أي ليس من شأنى ولا مما يصح أن يقع منى أن أقول قولا لا حق لى أن أقوله ، لأنك أيدتنى بالعصمة عن مثل هذا القول الباطل.
وهو بتنزيهه الله أوّلا أثبت أن ذلك القول الذي نسب إليه قول لا شائبة فيه من الحق وليس من شأنه ولا مما يقع من مثله.
وقد أكد هذا النفي مرة أخرى بحجة أخرى ارتقى فيها من برهان راجع إلى نفسه وهو عصمته عليه السلام إلى برهان أعلى راجع إلى ربه علام الغيوب فقال :
(إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي إن ذلك القول إن كان قد صدر منى فقد علمته ، إذ علمك واسع محيط بكل شىء ، فأنت تعلم ما أسره وأخفيه فى نفسى فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه وعلمه منى غيرى؟
كما أنى لا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لا ترشدنى إليها بالكسب والاستدلال ، لكنى أعلم ما تظهره لى بالوحى بواسطة ملائكتك المقربين إليك.
(إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي لأنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك ، ما كان منها وما سيكون وما هو كائن ، وعلم غيرك مستمد من فيضك لا من ذاته ، فهو إما أن يناله بواسطة المشاعر والحواس أو العقل ، وإما أن يتلقاه هبة منك بالوحى والإلهام.
وبعد تنزيه ربه وتبرئة نفسه وإقامة البراهين على ذلك ـ بين حقيقة ما قاله لقومه ، إذ الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة إلا بإثبات ما يجب أن يكونوا عليه من أمر التوحيد بعد نفى ضده ، فقال :
(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ـ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي إنى ما قلت لهم فى شأن الإيمان وأساس الدين إلا ما أمرتنى بالتزامه اعتقادا وتبليغا لهم ، بأنك ربى وربهم وأننى عبد من عبادك مثلهم إلا أنك خصصتنى بالرسالة إليهم.