ولا يلزم هذا على الجوهر الذي نصفه نحن فإنّ هذا الجوهر إذ ليس بجسماني فليس بمحال أن تتزاحم الأمور عليه والصورة المعلومة فيه. وربما تزول عنه هذه الأسباب لإقباله على تصور شيء من الأمور العاجلة البدنية عند مرض أو شغل قلب لم يعرض له ولا تزول عنه هذه الصورة المستحفظة في ذاته على الإطلاق لأجل أنّه روحانى النسج ، بل يكون في ذاته بنوع قوّة لا كقوّة الصبىّ على الكتابة ، بل كقوّة الكاتب الممنوع أو الممسك عن الكتابة؛ ثمّ إذا أردنا إشغاله عنها عاود بنوع فعلي بتلك الصورة المستحفظة مهما أراد.
وأمّا الجسم فلا يمكن عليه تزاحم صور مختلفة مدركة ولا استحفاظها بوجه من الوجوه. ألا ترى أنّ الحواس لا يمكن أن تستحفظ في ذاتها صورة وتقبل أخرى لأنّ الجسم ما لم ينحلّ عن إحدى الصورتين لم تحلّ المبائنة فيه ولا معاودته للصورة وقبولها بنوع فعلي بل بنوع انفعالي ، فإذا لا يتقرّر هذا القدر. فإذا ليس هذا الجوهر المذكور بجسم ولا قوّة جسمانية لأنّها إن احتاجت إلى وقوع الصورة لتعلقها فالمسألة قائمة ، وإن كفت بذاتها فليست بجسمانية ، بل هو الجوهر الذي في الجسم نصف.
وذلك ما أردنا أن نبيّن (ص ١١ ، ط حيدرآباد الدكن).
أقول : كون النفس في الصور المدركة على نوع فعلي لا انفعالي ، برهان آخر قويم على أنّها جوهر روحانى النسج. والحجة الرابعة من الرسالة المذكورة في ذلك. وسيأتى تفصيل البحث عن ذلك في البراهين الآتية.
تبصرة : قد دريت بما تقدّم أنّ جوهر النفس الناطقة باق باستقلاله على ما هو عليه من علومه وأعماله ، وإن كان قد يعرض عليه أطوار مادّية تشغله عن بعض شأنه ، وتحجبها عن الإقبال إلى الأمور التي قبلنا ، والكسب عن العلوم الجديدة. كما قال عزّ من قائل في موضعين من القرآن العظيم : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) (النحل ٧١). (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) (الحج ٦). فإنّ وهن القوى البدنية وفتور محالّها وضعف مزاجها واختلالها تمنعها عن أن يعلم ويكسب بعد ما علم علوما جديدة ،