مِنْ قَبْلِهِمْ).
إنّ الذي تحكيه الآيات وتدعونا للاعتبار به ليس تأريخا مدونا نستطيع أن نشكّك في طبيعة الوثائق والنصوص المكوّنة له ، وإنّما هو تأريخ حي ينطق عنه نفسه ، وينبض بالعبرة والعظمة ، فهذه قصور الظالمين الخربة ، وما تركوه ، من جنات وعيون ، وهذه مدن الأشقياء التي نزل بساحتها العذاب والانتقام الإلهي ، وها هي عظامهم النخرة التي يطويها التراب ، والقصور المدفونة تحت الأرض ... ها هي كلّها تحكي عظمة الدرس ، وعظيم العبرة ، خصوصا وأنّ القرآن يزيدنا معرفة بهؤلاء فيقول عنهم : (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ).
كانوا يملكون السلطات القوية ، والجيوش العظيمة ، والمدنية الباهرة التي لا يمكن مقايستها بحياة مشركي مكّة.
إنّ تعبير (أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) يكشف عن قوتهم السياسية والعسكرية ، وعن قوته الاقتصادية والعلمية أيضا.
أمّا التعبير في قوله تعالى : (آثاراً فِي الْأَرْضِ) فلعله إشارة إلى تقدمهم الزراعي العظيم ، كما ورد في الآية (٩) من سورة «الروم» في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها).
وقد يكون التعبير القرآني إشارة إلى البناء المحكم العظيم للأمم السابقة ، ممّا قاموا به في أعماق الجبال وبين السهول ، كما يصف القرآن ذلك في حال قوم «عاد» : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) (١).
ولكن عاقبة هؤلاء القوم ، بكل ما انطوت عليه حياتهم من مظاهر قوّة وحياة ونماء ، هي كما يقول تعالى : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ).
فلم تنفعهم كثرتهم ولم تمنعهم أموالهم وقدرتهم وشوكتهم من العذاب الإلهي
__________________
(١) الشعراء ، الآية ١٢٨ ـ ١٢٩.