«قالوا» كما زعمت ، كان الذي يتصوّر فيه أن يكون من هذا الضّرب الثاني ، وأن يكون المعنى : «وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزءون» ، فإذا قالوا ذلك استهزأ الله بهم ومدّهم في طغيانهم يعمهون.
وهذا وإن كان يرى أنه يستقيم ، فليس هو بمستقيم. وذلك أن الجزاء إنما هو على نفس الاستهزاء وفعلهم له وإرادتهم إيّاه في قولهم : «آمنّا» ، لا على أنهم حدّثوا على أنفسهم بأنّهم مستهزءون ، والعطف على «قالوا» يقتضي أن يكون الجزاء على حديثهم عن أنفسهم بالاستهزاء ، لا عليه نفسه.
ويبيّن ما ذكرناه من أن الجزاء ينبغي أن يكون على قصدهم الاستهزاء وفعلهم له ، لا على حديثهم عن أنفسهم بأنا مستهزءون ، أنهم لو كانوا قالوا لكبرائهم : «إنما نحن مستهزءون» وهم يريدون بذلك دفعهم عن أنفسهم بهذا الكلام ، وأن يسلموا من شرّهم ، وأن يوهموهم أنّهم منهم وإن لم يكونوا كذلك (١) ، لكان لا يكون عليهم مؤاخذة فيما قالوه ، من حيث كانت المؤاخذة تكون على اعتقاد الاستهزاء والخديعة في إظهار الإيمان ، لا في قول : «إنّا استهزأنا» من غير أن يقترن بذلك القول اعتقاد ونيّة.
هذا ، وهاهنا أمر سوى ما مضى يوجب الاستئناف وترك العطف ، وهو أن الحكاية عنهم بأنهم قالوا كيت وكيت ، تحرّك السامعين لأن يعلموا مصير أمرهم وما يصنع بهم ، وأتنزل بهم النّقمة عاجلا أم لا تنزل ويمهلون ، وتوقع في أنفسهم التمنّي لأن يتبيّن لهم ذلك. وإذا كان كذلك ، كان هذا الكلام الذي هو قوله : «الله يستهزئ بهم» ، في معنى ما صدر جوابا عن هذا المقدّر وقوعه في أنفس السامعين. وإذا كان مصدره كذلك ، كان حقّه أن يؤتى به مبتدأ غير معطوف ، ليكون في صورته إذا قيل : «فإن سألتم قيل لكم : «الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون».
وإذا استقريت وجدت هذا الذي ذكرت لك ، من تنزيلهم الكلام إذا جاء بعقب ما يقتضي سؤالا ، منزلته إذا صرّح بذلك السؤال ، كثيرا ، فمن لطيف ذلك قوله : [من الكامل]
زعم العواذل أنّني في غمرة ، |
|
صدقوا ، ولكن غمرتي لا تنجلي (٢) |
لمّا حكى عن العواذل أنهم قالوا : «هو في غمرة» ، وكان ذلك مما يحرّك
__________________
(١) والتقدير أنهم لو كانوا ..... لكان لا يكون عليهم».
(٢) البيت في الإيضاح (١٥٧) ، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (١٢٥) بلا عزو ، والطيبي في التبيان (١٤٢) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١٨٢) ، وهو غير منسوب. الغمرة : الشدة.