السامع لأن يسأله فيقول : «فما قولك في ذلك ، وما جوابك عنه؟» ، أخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له ، وصار كأنه قال : «أقول : صدقوا ، أنا كما قالوا ، ولكن لا مطمع لهم في فلاحي» ، ولو قال : «زعم العواذل أنني في غمرة وصدقوا» ، لكان يكون لم يضع في نفسه أنه مسئول ، وأن كلامه كلام مجيب.
ومثله قول الآخر في الحماسة : [من الكامل]
زعم العواذل أنّ ناقة جندب |
|
بجنوب خبت عرّيت وأجمّت |
كذب العواذل لو رأين مناخنا |
|
بالقادسيّة قلن : لجّ وذلّت (١) |
وقد زاد هذا أمر القطع والاستئناف وتقدير الجواب ، تأكيدا بأن وضع الظّاهر موضع المضمر ، فقال : «كذب العواذل» : ولم يقل «كذبن» ، وذلك أنه لما أعاد ذكر «العواذل» ظاهرا ، كان ذلك أبين وأقوى ، لكونه كلاما مستأنفا من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله ، وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام ومما هو على ذلك قول الآخر : [من الوافر]
زعمتم أنّ إخوتكم قريش! |
|
لهم إلف ، وليس لكم إلاف (٢) |
وذلك أنّ قوله : «لهم إلف» تكذيب لدعواهم أنّهم من قريش ، فهو إذن بمنزلة أن يقول : «كذبتم ، لهم إلف ، وليس لكم ذلك» : ولو قال : «زعمتم أنّ إخوتكم قريش ولهم إلف وليس لكم إلاف» ، لصار بمنزلة أن يقول : «زعمتم أن أخواتكم قريش وكذبتم» ، في أنه كان يخرج عن أن يكون موضوعا على أنه جواب سائل يقول له : «فما ذا تقول في زعمهم ذلك وفي دعواهم؟» فاعرفه.
واعلم أنّه لو أظهر «كذبتم» ، لكان يجوز له أن يعطف هذا الكلام الذي هو قوله : «لهم إلف» عليه بالفاء ، فيقول : «كذبتم فلهم إلف ، وليس لكم ذلك». فأما الآن فلا مساغ لدخول الفاء البتّة ، لأنه يصير حينئذ معطوفا بالفاء على قوله : «زعمتم
__________________
(١) البيتان في الإيضاح (١٥٧) ، وهو في شرح الحماسة للتبريزي (١ / ١٦٢) ، وجندب هو الشاعر ونسبه في معاهد التنصيص (١ / ٢٨١) ، وقال : «جندب بن عمار». خبت : موضع بالشام وبلدة بزبيد ، أجمت : أي تركت أن تركب.
(٢) البيت لمساور بن هند بن قيس بن زهير ، من شعراء الحماسة يهجو بني أسد ، وأورده القزويني في الإيضاح (١٥٨) ، والسكاكي في مفتاح العلوم (٢٧١) ، والإلف : الذي تألفه. إيلاف : العهد والذمام.