أسرّك ، البيتين؟ فإذن ربّ هزل صار أداة في جدّ ، وكلام جرى في باطل ثمّ استعين به على حقّ ، كما أنه ربّ شيء خسيس ، توصّل به إلى شريف ، بأن ضرب مثلا فيه ، وجعل مثالا له ، كما قال أبو تمام : [من الكامل]
والله قد ضرب الأقلّ لنوره |
|
مثلا من المشكاة والنّبراس (١) |
وعلى العكس ، فربّ كلمة حق أريد بها باطل (٢) ، فاستحقّ عليها الذمّ ، كما عرفت من خبر الخارجي مع علي رضوان الله عليه. وربّ قول حسن لم يحسن من قائله حين تسبّب به إلى قبيح ، كالذي حكى الجاحظ قال : «رجع طاوس (٣) يوما عن مجلس محمد بن يوسف (٤) ، وهو يومئذ والي اليمن فقال : ما ظننت أنّ قول : «سبحان الله» يكون معصية لله تعالى حتى كان اليوم ، سمعت رجلا أبلغ ابن يوسف عن رجل كلاما ، فقال رجل من أهل المجلس : «سبحان الله» ، كالمستعظم لذلك الكلام ، «ليغضب ابن يوسف» (٥).
فبهذا ونحوه فاعتبر ، واجعله حكما بينك وبين الشّعر.
وبعد ، فكيف وضع من الشّعر عندك ، وكسبه المقت منك ، أنك وجدت فيه الباطل والكذب وبعض ما لا يحسن ، ولم يرفعه في نفسك ، ولم يوجب له المحبة من قلبك ، أن كان فيه الحقّ والصّدق والحكمة وفصل الخطاب ، وأن كان مجنى ثمر العقول والألباب ، ومجتمع فرق الآداب ، والذي قيّد على الناس المعاني الشريفة ، وأفادهم الفوائد الجليلة ، وترسّل بين الماضي والغابر ، ينقل مكارم الأخلاق إلى الولد عن الوالد ، ويؤدّي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد ، حتّى ترى به آثار الماضين ، مخلّدة في الباقين ، وعقول الأوّلين ، مردودة في الآخرين ، وترى لكل من رام الأدب ، وابتغى الشّرف ، وطلب محاسن القول والفعل ، منارا مرفوعا وعلما منصوبا وهاديا مرشدا ، ومعلّما مسدّدا ، وتجد فيه للنّائي عن طلب المآثر ، والزاهد في اكتساب
__________________
(١) البيت لأبي تمام في ديوانه ، والتبيان ص (٣٦٨) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي. والنبراس : المصباح والسراج مشتق من النبرس : القطن. اللسان (نبرس). كذلك ذكر الجوهري في الصحاح أن النبراس هو المصباح.
(٢) قالها الإمام علي في جواب رجل من الخوارج دعا إلى التحكيم. انظر تاريخ الطبري (٥ / ٧٢).
(٣) وهو التابعي المشهور ، المتوفى سنة ١٠٦ ه ، بمكة في عهد هشام بن عبد الملك. اه سير أعلام النبلاء (٥ / ٣٨).
(٤) وهو أخو الحجاج توفي سنة ٩١ ه. الأعلام : (٧ / ١٤٧).
(٥) الخبر في البيان والتبيين ، (١ / ٣٩٥) ، أورده في باب : «ما ذكروا فيه من أن أثر السيف يمحو أثر الكلام».