يهربون إلى الصحراء ، التي تعد في جميع الأوقات ملاذا يصعب اختراقه ، ومن هناك يواصلون إثارة القلاقل والاضطرابات للغازي حتى يطردوه من بلادهم.
أما مدى نجاح تطبيق هذا الأسلوب في الحرب فيمكن فهمه من خلال نتيجة الغزوات المختلفة التي شنّت ضدّهم. فعند ما اخترق (أوليوس غاليوس) (١) سواحل البحر الأحمر ، تراجع السكان المحليون أمامه ولم يظهروا إلا القليل من المقاومة. ولكن ما أن دفعوه إلى التوغل إلى الداخل بأسلوبهم هذا ، وبدأ جنده يقضون حتفهم بسبب المرض ، حتى هجموا عليه هجوما كاسحا جعله يهرب مع حفنة بائسة من قوته إلى مصر تاركا جزيرة العرب دون أن يتمكن من غزوها. وبنفس الأسلوب ، خلّص هؤلاء السكان أنفسهم ، في فترة زمنية لا حقة ، من الفرس الذين كانوا يسيطرون ذات يوم تحت حكم (أنو شروان) على الجزء الأعظم من حدودهم ، بما في ذلك عمان. كما تخلصوا أيضا من الأحباش الذين دمروا الحجاز واليمن ، ومن الأتراك الذين استقروا فترة من الزمن في اليمن (٢).
ويبقى بحاجة إلى الإثبات مدى قدرة شرطة محمد علي الماكرة ـ الذي يفترض فيه إنه كان يفكر في إخضاع عموم جزيرة العرب ـ في التغلب على هذه الصعوبات. فنجاحه السابق ضد الوهابيين لا يقدم معيارا نستطيع من خلاله أن نصدر الحكم في هذا الشأن ، لأن هؤلاء المتشيعين كان ينظر إليهم العرب التقليديون على أنهم عدو مشترك. ولم يساعده في وضع نهاية ناجحة لتلك الحرب إلّا توحد العديد من القبائل العربية مع قواته. وكان الدمار الأخير الذي حاق بجيشه ـ الذي كان آنذاك حسن التجهيز وجيد القيادة ـ في منطقة (عسير) يدفعنا إلى عدم توقع نهاية لجهوده أفضل من تلك التي بذلها الغزاة الآخرون من قبله ، وهذا ما أوضحته آنفا.
__________________
(*) يشير إلى حملة حاكم مصر الروماني على اليمن عام ٢٤ ق. م والتي صحبه فيها الجغرافي استرابون الذي كتب وصفا لتلك الحملة الفاشلة.
(**) ما خلص إليه المؤلف هنا من قاعدة مفادها هروب شعوب الجزيرة إلى الصحراء عند تعرضهم للغزو وغير صحيح فحملة آليوس جالوس التي كانت متجهة نحو مأرب عاصمة سبأ كانت قادمة من جهة الشمال فكان من الطبيعي ان تواجهها جيوش السبئيين في منطقة الجوف (جوف معين) شمال مأرب وهي منطقة تقع في أطراف الصحراء. وأما إخراج الفرس والأحباش والأتراك فلم يكن من خلال معارك حاسمة في قلب الصحراء.