لقد أثبت النير الذي فرض على هذا الشعب في فترات مختلفة بأنه جزئي ولم يستغرق إلا وقتا قصيرا لأنه لم يحدث أي تغيير كبير في سلوكهم وأوضاعهم العامة. ولهذا السبب ، فإن جزيرة العرب ـ وبسبب موقعها الفريد أيضا ـ لم تتعرض للعواصف العاتية التي اكتسحت الشعوب المجاورة من على وجه الأرض ، ولم تترك لنا إلا أسمائها (١). بل إن بعثة محمد (ص) نفسها التي هزت العالم المتحضر كله وغيرته أخفقت في إحداث أي أثر دائم (٢). لهذا السبب ، فإن تاريخ مجمل الجزيرة العربية أو جزء منها في العصر الحديث على درجة بالغة من الأهمية لأن الصورة التي عليها السكان الآن ستوضح ـ مع فارق بسيط ـ كيف كانوا في السابق.
على الرغم من أن كبار شيوخ القبائل الرئيسية لديهم في بعض الأحيان سلطة إصدار أحكام القتل وإعلان الحرب والسلم فإن هذه السلطة تختزل اختزالا شديدا في كثير من الأحيان بفعل وجهاء القبيلة والمتنفذين فيها. وفي القضايا المدنية والجنائية يقومون بدور الوسيط لا الحكم ؛ وتناقش القضايا المهمة بين جميع أفراد القبيلة. ومع وجود السلطة المحدودة إلى هذه الدرجة ، فقد دهشت للعناية الفائقة والمودة الكبيرة اللتين تظهرهما قبائل عمان لأفرادها. وبهذا الصدد ، ثمة فرق شاسع بين هؤلاء البدو وسكان ساحل عمان وحضرموت.
قبل بضع سنوات ، تحطمت سفينتان محملتان بالنفائس على الساحل ، شرقي مدينة (رأس الحد) ضمن الحدود التي يقطن فيها بدو (بني بو علي) الذين قاموا مع قبيلة (بني جنبه) المجاورة بنهبهما على الفور. لم يصب أحد من الركاب ، لكن كان على ظهر السفينة يهودي مريض. وعند ما نقل إلى الساحل ، اهتم به أحد البدو حيث بذل جهدا لنقله إلى (مسقط) لقاء وعد بمنحه بعض الدولارات. ولكن البدوي خشي أن يموت اليهودي في الطريق بسبب اشتداد مرضه وعندئذ ستضيع منه الجائزة وربما يلقى بعض المتاعب فقرر
__________________
(*) لقد أهلك الله عادا وثمود كما بادت طسم وجديس والعماليق وجرهم الأولى وتلك في مجموعها تسمى العرب البائدة.
(**) هذا القول الذي يروج له المؤلف هنا الذي يصف سكان الجزيرة العربية بالجمود وعدم التطور طوال مسيرة التاريخ مجانب للصواب فالجزيرة العربية هي مهد الحضارة الإنسانية ومهبط الوحي الإلهي وسكانها أول من حمل راية التوحيد وأثار مشعل الحضارة.