تركوه ينمو ليصل إلى خواصرهم وأشبعوه بالمادة الدهنية ، فكان يقيهم إلى حد ما حرارة الشمس الشديدة. ولم يستخدموا أي غطاء آخر. بعد مغادرتنا البلدة ظلوا يلازمون بعضهم بعضا ، أما الآن فقد باتوا يتحركون في جميع الاتجاهات يطارد أحدهم الآخر بصرخات مدوية عبر الحقول. واصلنا تقدمنا على هذا النحو فوق أرض مستوية ، تقطعها آثار تيارات ماء عديدة ، حوالي أربع ساعات بعدها عبرنا سلسلة ضيقة وواطئة من تلال كلسية. وفي غضون ساعتين أصبحنا وسط بعض الهضاب التي نمت فيها بكثرة أشجار الصمغ العربي. ولا يتم إلا جمع القليل من هذه المادة في هذا المكان لأن البدو تذمروا من أن سعره في مسقط لا يوازي عناء جمعه. وفي الساعة الرابعة والنصف توقفنا قرب بعض آبار الماء المالحة قليلا. كان طريقنا يتجه حتى الآن صوب الجنوب والجنوب الغربي وقطعنا منها اثنين وأربعين ميلا. كانت هناك مجموعة من السكان المحليين انضموا إلينا حال توقفنا فأرسلوا لجلب الرز والتمور. في هذه الأثناء أضرمنا النار تحت شجرة ضخمة. وانتظرنا عودتهم لطبخ الطعام وعند رجوعهم بدأ أعداد الطعام بعد أن تأخروا حتى غروب الشمس. كان الطعام شهيا جدا. لم يكن عندي خادم ولا أمتعة وكنت أفكّر بأن تحقيق أهداف رحلتي ، وأنا بينهم حتى لوقت قصير ، إنما يكون بمسايرتهم في أسلوب معيشتهم. ولم تخيب النتائج ظنوني. فوسط هذه القبائل كلها ثمة سحر موروث تكون فيها تفاصيل الحروب والغزوات التي يشتركون فيها والتي أشترك فيها أجدادهم جزءا مثيرا وجذابا جدا. كما تذكر مآثر جواد أو جمل أثير بنفس الدرجة من الحماس. جلست أحتسي القهوة وأصغي لسردهم هذه الحكايات حتى ساعة متأخرة جدا. وفي أثناء الليل ظلت بعض كلاب الحراسة ساهرة حول المخيم (١).
__________________
(١) لا يزال البدوي يحتفظ بحب جياش للغناء ، وهو مما يتميز به أهله. وسواء أكان العربي يرعى القطيع أو يزجي الوقت في رحلة مملة أو يجلس حول النار بعد تناوله طعامه وشرابه في السماء ، فإنه يطلق دوما عقيرته بالغناء ويكون موضوعه إما الحب أو الحرب. وغالبا ما كنت أصغي تحت ظلال نخلة ما لإحدى هذه الأغنيات مسليا نفسي ساعات طويلة. ولا يصاحب هذا الغناء إلا ربابة. وعلى الرغم من أن لا شيء أكثر من هذا يمكن أن يكون بعيدا كل البعد عن فكرتنا عن الغناء ، إلا أن عواطفهم وتعبيرهم تناسب المشهد الذي يصفونه إلى حد يثير الإعجاب ، كما أن ذلك يعبر تعبيرا دقيقا عن الطبيعة الغريبة التي تتميز بها أذهانهم. وتتميز موسيقاهم بالجمع بين ما هو خشن وفظ في حين أن حركاتهم بطيئة ورزينة وفي أحيان أخرى مفعمة بالحيوية والنشاط. ويظهرون الوقار والتفكير الحزين تارة بينما يتقافزون غالبا ويشكلون جوقة تصدح بأعلى الأصوات تارة أخرى. ولم أعثر على أسلوب أكيد لإثارة المشاعر الودية تجاهي ، عند ما أكون وسط هؤلاء القوم الذين يتصفون بالخشونة ، إلا الإصغاء بكل اهتمام لما يؤدون.