فأمرهم بحفره ، وأباحهم استعمال الحيلة في إخراجه ، فحفروا حفرا عظيما إلى أن انتهوا إلى أزج وأقباء وحجارة مجوّفة في صخرة منقورة فيها تماثيل قائمة على أرجلها من الخشب قد طلي بالأطلية المانعة من سرعة البلاء وتفرّق الأجزاء والصور مختلفة فيها صور شيوخ وشبان ونساء وأطفال. أعينهم من أنواع الجواهر كالياقوت والزمرد والزبرجد والفيروزج ، ومنها ما وجوهها ذهب ، وفضة فكسر بعض تلك التماثيل فوجدوا في أجوافها رمما بالية ، وأجساما فانية ، وإلى جانب كل تمثال منها نوع من الأبنية كالبراني وغيرها من المرمر والرخام ، وفيه من الطلي الذي قد طلي منه ذلك الميت الموضوع في التماثيل الخشب والطلاء دواء مسحوق ، وأخلاط معمولة لا رائحة لها ، فجعل منه على النار شيء ففاح منه ريح طيبة مختلفة لا تعرف في نوع من أنواع الطيب. وقد جعل كل تمثال من الخشب على صورة ما فيه من الناس على اختلاف أسنانهم ، ومقادير أعمارهم ، وتباين صورهم ، وبإزاء كل تمثال تمثال من الحجر المرمر ، أو من الرخام الأخضر على هيئة الصنم على حسب عبادتهم للتماثيل والصور. عليها أنواع من الكتابات لم يقف أحد على استخراجها من أهل الملل ، وزعم قوم من أهل الدراية أن لذلك القلم منذ فقد من أرض مصر. أربعة آلاف سنة ، وفيما ذكرناه دلالة على أن هؤلاء ليسوا بيهود ولا نصارى ولم يؤدّهم الحفر إلا لما ذكرناه من هذه التماثيل ، وكان ذلك في سنة ثمان وعشرين وثلثمائة ، وقد كان من سلف وخلف من ولاة مصر. من أحمد بن طولون وغيره ، إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة ، لهم أخبار عجيبة فيما استخرج في أيامهم من الدفائن ، والأموال والجواهر ، وما أصيب في هذه المطالب من القبور ، وقد أتينا على ذكرها فيما تقدّم من تصنيفنا.
(وركب) أحمد (١) بن طولون يوما إلى الأهرام ، فأتاه الحجاب بقوم عليهم ثياب صوف ، ومعهم المساحي والمعاول ، فسألهم عن ما يعملون فقالوا : نحن قوم نطلب المطالب ، فقال لهم : لا تخرجوا بعدها إلا بمشورتي أو رجل من قبلي وأخبروه أنّ في سمت الأهرام مطلبا قد عجزوا عنه فضم إليهم الرافقي وتقدّم إلى عامل الجيزة في إعانتهم بالرجال والنفقات ، وانصرف فأقاموا مدّة يعملون حتى ظهر لهم ، فركب أحمد بن طولون إليهم وهم يحفرون ، فكشفوا عن حوض مملوء دنانير ، وعليه غطاء مكتوب عليه بالبربطية فأحضر من قرأه : فإذا فيه أنا فلان بن فلان الملك الذي ميز الذهب من غشه ودنسه فمن أراد أن يعلم فضل ملكي على ملكه فلينظر إلى فضل عيار ديناري على عيار ديناره ، فإن مخلص الذهب من الغش مخلص في حياته وبعد وفاته ، فقال أحمد بن طولون : الحمد لله أنّ ما
__________________
ـ والإخشيد بلسان الفرغانة : ملك الملوك. النجوم الزاهرة ج ٣ / ٢٨٩.
(١) الأمير أبو العباس أحمد بن طولون التركي أمير مصر ولي مصر بعد عزل أرخوز سنة ٢٥٤ ه. وله من العمر ٣٤ سنة. كانت ولادته في سامراء سنة ٢٢٠ ه وتوفي بمصر سنة ٢٧٠ ه. النجوم الزاهرة ج ٢ / ٦٢.