بأن المخففة وباللام كونهم كانوا جادين في ذلك ، ثم ظهر منهم التكذيب والنفور البليغ ، كقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (١).
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا) : قرأ الجمهور بالإفراد لما انتظمت في معنى واحد عبر عنها بالإفراد. وقرأ الضحاك : بالجمع ، والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقامات الحجاج وملاحم القتال في الدنيا ، وعلوهم عليهم في الآخرة. وقال الحسن : ما غلب نبي في الحرب ، ولا قتل فيها. (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) : أي إلى مدّة يسيرة ، وهي مدّة الكف عن القتال. وعن السدّي : إلى يوم بدر ، ورجحه الطبري. وقال قتادة : إلى موتهم. وقال ابن زيد : إلى يوم القيامة. (وَأَبْصِرْهُمْ) : أي انظر إلى عاقبة أمرهم ، فسوف يبصرونها وما يحل بهم من العذاب والأسر والقتل ، أو سوف يبصرونك وما يتم لك من الظفر بهم والنصر عليهم. وأمره بإبصارهم إشارة إلى الحالة المنتظرة الكائنة لا محالة ، وأنها قريبة كأنها بين ناظريه بحيث هو يبصرها ، وفي ذلك تسلية وتنفيس عنه عليهالسلام. (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) : استفهام توبيخ.
(فَإِذا نَزَلَ) هو ، أي العذاب ، مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذره ، فأنكروه بحيث أنذر بهجومه قومه وبعض صناعهم ، فلم يلتفتوا إلى إنذراه ، ولا أخذوا أهبته ، ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم حتى أناخ بفنائهم ، فشن عليهم الغارة ، وقطع دابرهم. وكانت عادة مغازيهم أن يغيروا صباحا ، فسميت الغارة صباحا ، وإن وقعت في وقت آخر. وما فصحت هذه الآية ، ولا كانت له الروعة التي يحسن بها ، ويرونك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل ، قاله الزمخشري. وقرأ الجمهور : مبنيا للفاعل ؛ وابن مسعود : مبنيا للمفعول ؛ وساحتهم : هو القائم مقام الفاعل. ونزل ساحة فلان ، يستعمل فيما ورد على الإنسان من خير أو شر ؛ وسوء الصباح : يستعمل في حلول الغارات والرزايات ؛ ومثل قول الصارخ : يا صباحاه ؛ وحكم ساء هنا حكم بئس. وقرأ عبد الله : فبئس ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : فساء صباح المنذرين صباحهم. (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) : كرر الأمر بالتولي ، تأنيسا له عليه الصلاة والسلام ، وتسلية وتأكيدا لوقوع الميعاد ؛ ولم يقيد أمره بالإبصار ، كما قيده في الأول ، إما لاكتفائه به في الأول فحذفه اختصارا ، وإما لما في ترك التقييد من جولان الذهن فيما يتعلق به الإبصار منه من صنوف المسرات ، والإبصار منهم من صنوف المساءات. وقيل : أريد بالأول عذاب الدنيا ، وبالآخرة عذاب الآخرة.
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٩.