لما أمره تعالى بالصبر على سفاهة قومه ، وذكر جملة من الأنبياء وأحوالهم ، ذكر ما يؤول إليه حال المؤمنين والكافرين من الجزاء ، ومقر كل واحد من الفريقين. ولما كان ما يذكره نوعا من أنواع التنزيل ، قال : (هذا ذِكْرٌ) ، كأنه فصل بين ما قبله وما بعده. ألا ترى أنه لما ذكر أهل الجنة ، وأعقبه بذكر أهل النار قال : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ)؟ وقال ابن عباس : هذا ذكر من مضى من الأنبياء. وقيل : (هذا ذِكْرٌ) : أي شرف تذكرون به أبدا. وقرأ الجمهور : (جَنَّاتِ) بالنصب ، وهو بدل ، فإن كان عدن علما ، فبدل معرفة من نكرة ؛ وإن كان نكرة ، فبدل نكرة من نكرة. وقال الزمخشري : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) معرفة لقوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ) (١) ، وانتصابها على أنها عطف بيان بحسن مآب ، ومفتحة حال ، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل. وفي مفتحة ضمير الجنات ، والأبواب بدل من الضمير تقديره : مفتحة هي الأبواب لقولهم : ضرب زيد اليد والرجل ، وهو من بدل الاشتمال. انتهى. ولا يتعين أن يكون جنات عدن معرفة بالدليل الذي استدل به وهو قوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي) ، لأنه اعتقد أن التي صفة لجنات عدن ، ولا يتعين ما ذكره ، إذ يجوز أن تكون التي بدلا من جنات عدن. ألا ترى أن الذي والتي وجموعهما تستعمل استعمال الأسماء ، فتلي العوامل ، ولا يلزم أن تكون صفة؟ وأما انتصابها على أنها عطف بيان فلا يجوز ، لأن النحويين في ذلك على مذهبين : أحدهما : أن ذلك لا يكون إلا في المعارف ، فلا يكون عطف البيان إلا تابعا لمعرفة ، وهو مذهب البصريين. والثاني : أنه يجوز أن يكون في النكرات ، فيكون عطف البيان تابعا لنكرة ، كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة ، وهذا مذهب الكوفيين ، وتبعهم الفارسي. وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى هذا المصنف. وقد أجاز ذلك في قوله : (مَقامِ إِبْراهِيمَ) (٢) ، فأعربه عطف بيان تابعا لنكرة ، وهو (آياتٍ بَيِّناتٍ*) (٣) ، و (مَقامِ إِبْراهِيمَ*) معرفة ، وقد رددنا عليه ذلك في موضعه في آل عمران. وأما قوله : وفي مفتحة ضمير الجنات ، فجمهور النحويين أعربوا الأبواب مفعولا لم يسم فاعله. وجاء أبو علي فقال : إذا كان كذلك ، لم يكن في ذلك ضمير يعود على جنات عدن. من الحالية أن أعرب مفتحة حالا ، أو من النعت أن أعرب نعتا لجنات عدن ، فقال : في مفتحة ضمير يعود على الجنات حتى ترتبط الحال بصاحبها ، أو النعت بمنعوته ،
__________________
(١) سورة مريم : ١٩ / ٦١.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٩٧.
(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٩٧.