بكونه مرئيا مدركا بالحاسة ، ويثبتون له يدا وقدما وجنبا مستترين بالبلكفة ، ويجعلون له أندادا بإثباتهم معه قدما. انتهى ، وكلام من قبله على طريقة المعتزلة. والظاهر أن الرؤية من رؤية البصر ، وأن (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) جملة في موضع الحال ، وفيها رد على الزمخشري ، إذ زعم أن حذف الواو من الجملة الاسمية المشتملة على ضمير ذي الحال شاذ ، وتبع في ذلك الفراء ، وقد أعرب هو هذه الجملة حالا ، فكأنه رجع عن مذهبه ذلك ، وأجاز أيضا أن تكون من رؤية القلب في موضع المفعول الثاني ، وهو بعيد ، لأن تعلق البصر برؤية الأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلب. وقرىء : وجوههم مسودّة بنصبهما ، فوجوههما بدل بعض من كل. وقرأ أبيّ : أجوههم ، بإبدال الواو همزة ، والظاهر أن الاسوداد حقيقة ، كما مر في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) (١). وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز ، وعبر بالسواد عن ارتداد وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم.
ولما ذكر تعالى حال الكاذبين على الله ، ذكر حال المتقين ، أي الكذب على الله وغيره ، مما يؤول بصاحبه إلى اسوداد وجهه ، وفي ذلك الترغيب في هذا الوصف الجليل الذي هو التقوى. قال السدي : (بِمَفازَتِهِمْ) : بفلاحهم ، يقال : فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده ، وتفسير المفازة قوله : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، كأنه قيل : وما مفازتهم؟ قيل : لا يمسهم السوء ، أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم ، أو بسبب منجاتهم من قوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) (٢) ، أي بمنجاة منه ، لأن النجاة من أعظم الفلاح ، وسبب منجاتهم العمل الصالح ، ولهذا فسر ابن عباس رضياللهعنه المفازة : بالأعمال الحسنة ؛ ويجوز بسبب فلاحهم ، لأن العمل الصالح سبب الفلاح ، وهو دخول الجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة ، لأنه سببها. فإن قلت : (لا يَمَسُّهُمُ) ، ما محله من الإعراب على التفسيرين؟ قلت : أما على التفسير الأول فلا محل له ، لأنه كلام مستأنف ، وأما على الثاني فمحله النصب على الحال. انتهى. وقرأ الجمهور : بمفازتهم على الإفراد ، والسلمي ، والحسن ، والأعرج ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : على الجمع ، من حيث النجاة أنواع ، والأسباب مختلفة. قال أبو علي : المصادر تجمع إذا اختلفت أجناسها كقوله : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (٣). وقال
__________________
(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٠٦.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٨.
(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ١٠.