الذين يسبحون بحمده مؤمنون؟ قلت : فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك ، وكما عقب أعمالهم الخير بقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (١) ، فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى ، وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة ، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين ، ولما وصفوا بالإيمان لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب. ولما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم ، علم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في أن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير ، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا ، وأنه منزه عن صفات الإجرام.
وقد روعي التناسب في قوله : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم ، وفيه تنبيه على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة ، وأبعثه على إمحاض الشفقة ، وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن ، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان ، ولا بين سماء وأرض قط ثم لما جاء جامع الإيمان ، جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي ، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض ، قال تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) (٢). انتهى ، وهو كلام حسن. إلا أن قوله : إن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير فيه نظر ، وقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) تخصيص لعموم قوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ). وقال مطرف بن الشخير : وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة ، وأغش العباد للعباد الشياطين ، وتلا هذه الآية. انتهى. وينبغي أن يقال : أنصح العباد للعباد الأنبياء والملائكة. (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) : أي يقولون : ربنا واحتمل هذا المحذوف بيانا ليستغفرون ، فيكون في محل رفع ، وأن يكون حالا ، فيكون في موضع نصب. وكثيرا ما جاء النداء بلفظ ربنا ورب ، وفيه استعطاف العبد لمولاه الذي رباه وقام بمصالحه من لدن نشأته إلى وقت ندائه ، فهو جدير بأن لا يناديه إلا بلفظ الرب. وانتصب رحمة وعلما على التمييز ، والأصل : وسعت رحمتك كل شيء ، وعلمك كل شيء ؛ وأسند الوسع إلى صاحبها مبالغة ، كأن ذاته هي الرحمة والعلم ، وقد وسع كل شيء. وقدم الرحمة ، لأنهم بها يستمطرون إحسانه ويتوسلون بها إلى حصول مطلوبهم من سؤال المغفرة.
__________________
(١) سورة البلد : ٩٠ / ١٧.
(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٥.