كانوا مقرين بأن الله خالقها ، وبأنها خلق عظيم لا يقادر قدره ، وخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين ، فمن قدر على خلقها مع عظمها كان على خلق الإنسان مع مهانته أقدر ، وهو أبلغ من الاستشهاد بخلق مثله. انتهى. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الكلام في معنى البعث والإعادة ، فأعلم تعالى أن الذي خلق السموات والأرض قوي قادر على خلق الناس تارة أخرى ، فالخلق مصدر أضيف إلى المفعول ، وقال النقاش : المعنى مما يخلق الناس ، إذ هم في الحقيقة لا يملكون شيئا ، فالخلق مضاف للفاعل. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) : أي لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم ، ونفي العلم عن الأكثر وتخصيصه به يدل على أن القليل يعلم ، ولذلك ضرب مثلا للجاهل بالأعمى ، وللعالم بالبصير ، وانتفاء الاستواء بينهما هو من الجهة الدالة على العمى وعلى البصر ، وإلا فهما مستويان في غير ما شيء.
ولما بعد ، قسم الذين آمنوا بطول صلة الموصول ، كرر لا توكيدا ، وقدم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) لمجاورة قوله : (وَالْبَصِيرُ) ، وهما طريقان ، أحدهما : أن يجاور المناسب هكذا ، والآخر : أن يتقدم ما يقابل الأول ويؤخر ما يقابل الآخر ، كقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (١) ، وقد يتأخر المتماثلان ، كقوله تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) (٢) ، وكل ذلك تفنن في البلاغة وأساليب الكلام. ولما كان قد تقدم : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ، فكان ذلك صفة ذم ناسب أن يبدأ في ذكر التساوي بصفة الذم ، فبدأ بالأعمى. وقرأ قتادة ، وطلحة ، وأبو عبد الرحمن ، وعيسى ، والكوفيون : تتذكرون بتاء الخطاب ؛ والجمهور ، والأعرج ، والحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة : بالياء على الغيبة. ثم أخبر بما يدل على البعث من إتيان الساعة ، وأنه لا ريب في وقوعها ، وهو يوم القيامة ، حيث الحساب وافتراق الجمع إلى الجنة طائعهم ، وإلى النار كافرهم ومن أراد الله تعذيبه من العصاة بغير الكفر. والظاهر حمل الدعاء والاستجابة على ظاهرهما ، إلا أن الاستجابة مقيدة بمشيئة الله.
قال السدي : اسألوني أعطكم ؛ وقال الضحاك : أطيعوني آتكم ؛ وقالت فرقة منهم مجاهد : ادعوني ، اعبدوني وأستجب لكم ، آتيكم على العبادة. وكثيرا جاء الدعاء في القرآن بمعنى العبادة ، ويقوي هذا التأويل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي). وما روى النعمان بن بشير ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «الدعاء هو العبادة» ، وقرأ هذه الآية. وقال
__________________
(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٢٠.
(٢) سورة هود : ١١ / ٢٤.