ونذير برفعهما على الصفة لكتاب ، أو على خبر مبتدأ محذوف ، وبشارته بالجنة لمن آمن ، ونذارته بالنار لمن كفر. (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) : أي أكثر أولئك القوم ، أي كانوا من أهل العلم ولكن لم ينظروا النظر التام ، بل أعرضوا ، (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) لإعراضهم عن ما احتوى عليه من الحجج والبراهين ، أو لما لم ينتفع به ولم يقبله جعل كأنه لم يسمعه.
ثم أخبر تعالى عنهم بالمقالة الدالة على امتناع قلوبهم ، والناس من رجوعهم إليه ومن سماعهم لما يتلوه ، وهو قوله تعالى ، حكاية عنهم : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) ، تقدم الكلام على شبه ذلك في الأنعام. وقرأ طلحة : وقر بكسر الواو ، وهذه تمثيلات لامتناع قبول الحق ، كأن قلوبهم في غلاف ، كما قالوا : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) (١) ، وكأن أسماعهم عند ذكر كلام الله بها صمم. والحجاب : الستر المانع من الإجابة ، وهو خلاف في الدين ، لأنه يعبد الله وهم يعبدون الأصنام ، قال معناه الفراء وغيره. ويروى أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال : يا محمد ، بيننا وبينك حجاب ، استهزاء منه. وقيل : تمثيل بعدم الإجابة. وقيل : عبارة عن العداوة. ومن في (مِمَّا تَدْعُونا) إليه لابتداء الغاية ، وكذا في (وَمِنْ بَيْنِنا). فالمعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب ، لا فراغ فيها ، ولو لم يأت بمن لكان المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين ، والمقصود المبالغة بالتباين المفرط ، فلذلك جيء بمن. وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : على قلوبنا أكنة ، كما قيل : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) ، ليكون الكلام على نمط واحد؟ قلت : هو على نمط واحد ، لأنه لا فرق في المعنى بين قولك : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) ، والدليل عليه قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) (٢). ولو قيل : إنا جعلنا قلوبهم في أكنة ، لم يختلف المعنى ، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني ، وتقول : إن في أبلغ في هذا الموضع من على ، لأنهم قصدوا إفراط عدم القبول ، لحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف ، فلا يمكن أن يصل إليها شيء. كما تقول : المال في الكيس ، بخلاف قولك : على المال كيس ، فإنه لا يدل على الحصر ، وعدم الحصول دلالة الوعاء. وأما في قوله : (إِنَّا جَعَلْنا) ، فهو من أخبار الله تعالى ، لا يحتاج إلى مبالغة ، بخلاف قولهم. وقول الزمخشري : وترى المطابيع ، يعني من العرب وشعرائهم ، ولذلك تكلم الناس في شعر حبيب ، ولم يستحسن بعضهم كثرة صنعة البديع فيه ؛ قالوا : وأحسنه ما جاء
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٨.
(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٥٧.