ولما صدر منها ما صدر من العقلاء ، وهي الشهادة ، خاطبوها بقولهم : (لِمَ شَهِدْتُمْ)؟ مخاطبة العقلاء. وقرأ زيد بن علي : لم شهدتن؟ بضمير المؤنثات. و (كُلَّ شَيْءٍ) : لا يراد به العموم ، بل المعنى : كل ناطق بما ذلك له عادة ، أو كان ذلك فيه خرق عادة. وقال الزمخشري : أراد بكل شيء : كل شيء من الحيوان ، كما أراد به في قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) ، من المقدورات. والمعنى : أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان ، وعلى خلقكم وإنشائكم ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ، وإنما قالوا لهم : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) لما تعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم. وقال الزمخشري أيضا : فإن قلت : كيف تشهد عليهم أبصارهم وكيف تنطق؟ قلت : الله عزوجل ينطقها ، كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاما. انتهى ، وهذا الرجل مولع بمذهبه الاعتزالي ، يدخله في كل ما يقدر أنه يدخل. وإنما أشار بقوله : كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاما إلى أن الله تعالى لم يكلم موسى حقيقة ، وإنما الشجرة هي التي سمع منها الكلام بأن يخلق الله فيها كلاما خاطبته به عن الله تعالى. والظاهر أن قوله : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) من كلام الجوارح ، قيل : ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى توبيخا لهم ، أو من كلام ملك يأمره تعاليه. و (أَنْ يَشْهَدَ) : يحتمل أن يكون معناه : خيفة أو لأجل أن يشهد إن كنتم غير عالمين بأنها تشهد ، (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ) ، فانهمكتم وجاهدتم ، وإلى هذا نحا مجاهد ، والستر يأتي في هذا المعنى ، كما قال الشاعر :
والستر دون الفاحشات وما |
|
يلقاك دون الخير من ستر |
ويحتمل أن يكون معناه : عن أن يشهد ، أي وما كنتم تمتنعون ، ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم ، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد من الشهادة عليكم ، وإلى هذا نحا السدي ، أو ما كنتم تتوقعون بالاختفاء والستر أن يشهد عليكم ، لأن الجوارح لزيمة لكم. وعبر قتادة عن تستترون بتظنون ، أي وما كنتم تظنون أن يشهد ، وهذا تفسير من حيث المعنى لا من حيث مرادفة اللفظ ، (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً) ، وهو الخفيات من أعمالكم ، وهذا الظن كفر وجهل بالله وسوء معتقد يؤدي إلى تكذيب الرسل والشك في علم الإله. (وَذلِكُمْ) : إشارة إلى ظنهم أن الله لا يعلم كثيرا من أعمالهم ، وهو مبتدأ خبره (أَرْداكُمْ) ، و (ظَنُّكُمُ) بدل من (ذلِكُمْ) أي
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٤.