(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) : أي بل يقولون افتراه ، أي بل أيقولون اختلقه؟ انتقلوا من قولهم : (هذا سِحْرٌ) إلى هذه المقالة الأخرى. والضمير في افتراه عائد إلى الحق ، والمراد به الآيات. (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) ، على سبيل الفرض ، فالله حسبي في ذلك ، وهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه ، ولا يمهلني ؛ (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) رد عقوبة الله بي شيئا. فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه؟ يقال : فلان لا يملك إذا غضب ، ولا يملك عنانه إذا صم ؛ ومثله : (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) (١)؟ (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) (٢). ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «لا أملك لكم من الله شيئا». ثم استسلم إلى الله واستنصر به فقال : (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) : أي تندفعون فيه من الباطل ، ومراده الحق ، وتسميته تارة سحرا وتارة فرية. والضمير في فيه يحتمل أن يعود على ما ، أو على القرآن ، وبه في موضع الفاعل يكفي على أصح الأقوال. (شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) : شهيد إليّ بالتبليغ والدعاء إليه ، وشهيد عليكم بالتكذيب. (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) : عدة لهم بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر ، وإشعار بحلمه تعالى عليهم ، إذ لم يعاجلهم بالعقاب ، إذ كان ما تقدم تهديدا لهم في أن يعاجلهم على كفرهم. (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) : أي جاء قبلي غيري ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والبدع والبديع : من الأشياء ما لم ير مثله ، ومنه قول عدي بن زيد ، أنشده قطرب :
فما أنا بدع من حوادث تعتري |
|
رجالا عرت من بعد بؤسي فأسعد |
والبدع والبديع : كالخف والخفيف ، والبدعة : ما اخترع مما لم يكن موجودا ، وأبدع الشاعر : جاء بالبديع ، وشيء بدع ، بالكسر : أي مبتدع ، وفلان بدع في هذا الأمر : أي بديع ، وقوم إبداع ، عن الأخفش. وقرأ عكرمة ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : بفتح الدال ، جمع بدعة ، وهو على حذف مضاف ، أي ذا بدع. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون صفة على فعل ، كقولهم : دين قيم ولحم زيم. انتهى. وهذا الذي أجازه ، إن لم ينقل استعماله عن العرب ، لم نجزه ، لأن فعل في الصفات لم يحفظ منه سيبويه إلا عدى. قال سيبويه : ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع ، وهو قوم عدى ، وقد استدرك ، واستدراكه صحيح. وأما قيم ، فأصله قيام وقيم ، مقصور منه ، ولذلك اعتلت الواو فيه ، إذ لو لم يكن مقصورا لصحت ، كما صحت في حول وعوض. وأما قول العرب : مكان
__________________
(١) سورة المائدة : ٥ / ١٧.
(٢) سورة المائدة : ٥ / ٤١.