أذهبتم على الخبر ، أي فيقال لهم : أذهبتم ، ولذلك حسنت الفاء في قوله : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ). وقرأ قتادة ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وابن كثير : بهمزة بعدها مدة مطولة ، وابن عامر ، بهمزتين حققهما ابن ذكوان ، ولين الثانية هشام ، وابن كثير في رواية. وعن هشام : الفصل بين المحققة والملينة بألف ، وهذا الاستفهام هو على معنى التوبيخ والتقرير ، فهو خبر في المعنى ، فلذلك حسنت الفاء ، ولو كان استفهاما محضا لم تدخل الفاء. والطيبات هنا : المستلذات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطئ ، وغير ذلك مما يتنعم به أهل الرفاهية.
وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا ، وترك التنعم فيها ، والأخذ بالتقشف ، وما يجتزي به رمق الحياة عن رسول الله في ذلك ما يقتضي التأسي به. وعن عمر في ذلك أخبار تدل على معرفته بأنواع الملاذ ، وعزة نفسه الفاضلة عنها. أتظنون أنا لا نعرف خفض العيش؟ ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصلائق ، ولكن استبقي حسناتي ؛ فإن الله عزوجل وصف أقواما فقال : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ). والصلاء الشواء والصفار المتخذ من الخردل والزبيب ، والصلائق : الخبز الرقاق العريض. قال ابن عباس : وهذا من باب الزهد ، وإلا فالآية نزلت في كفار قريش ؛ والمعنى : أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم ، لكنكم لم تؤمنوا ، فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان ، ولذلك نزلت عليه : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) ؛ ولو أريد الظاهر ، ولم يكن كناية عن ما ذكرنا ، لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب. وقرىء : الهوان ، وهو والهون بمعنى واحدة. ثم بين تلك الكناية بقوله : (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) : أي تترفعون عن الإيمان ؛ (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) : أي بمعاصي الجوارح وقدم ذنب القلب ، وهو الاستكبار على ذنب الجوارح ؛ إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب. ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا ، معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول ، ذكرهم بما جرى للعرب الأولى ، وهم قوم عاد ، وكانوا أكثر أموالا رأشد قوة وأعظم جاها فيهم ، فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم ، وضرب الأمثال. وقصص من تقدم تعرف بقبح الشيء وتحسينه ، فقال لرسوله : واذكر لقومك ، أهل مكة ، هودا عليهالسلام ، (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) عادا عذبهم الله (بِالْأَحْقافِ). قال ابن عباس : واد بين عمان ومهرة. وقال ابن إسحاق : من عمان إلى حضرموت. وقال ابن زيد : رمال مشرقة بالشحر من اليمن. وقيل : بين مهرة وعدن. وقال قتادة : هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني.