كلامهم هذا فقال : (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) من أمور الدنيا ، وظاهره ليس لهم فكر إلا فيها ، كقوله : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (١). والإضراب الأول رد أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد. والثاني ، إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى ما هو أطم منه ، وهو الجهل وقلة الفقه.
(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) : أمر تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يقول لهم ذلك ، ودل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام ، ولو لم يكن الأمر كذلك ، لم يكونوا أهلا لذلك الأمر. وأبهم تعالى في قوله : (إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ). فقال عكرمة ، وابن جبير ، وقتادة : هم هوازن ومن حارب الرسول صلىاللهعليهوسلم في حنين. وقال كعب : الروم الذين خرج إليهم عام تبوك ، والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة. وقال الزهري ، والكلبي : أهل الردة ، وبنو حنيفة باليمامة. وعن رافع بن خديج : إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ، ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر ، رضي الله تعالى عنه ، إلى قتال بني حنيفة ، فعلمنا أنهم أريدوا بها. وقال ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، وعطاء الخراساني ، وابن أبي ليلى : هم الفرس. وقال الحسن : فارس والروم. وقال أبو هريرة : قوم لم يأتوا بعد. وظاهر الآية يرد هذا القول. والذي أقوله : إن هذه الأقوال تمثيلات من قائليها ، لا أن المعنى بذلك ما ذكروا ، بل أخبر بذلك مبهما دلالة على قوة الإسلام وانتشار دعوته ، وكذا وقع حسن إسلام تلك الطوائف ، وقاتلوا أهل الردة زمان أبي بكر ، وكانوا في فتوح البلاد أيام عمر وأيام غيره من الخلفاء.
والظاهر أن هؤلاء المقاتلين ليسوا ممن تؤخذ منهم الجزية ، إذ لم يذكر هنا إلا القتال أو الإسلام. ومذهب أبي حنيفة ، رحمهالله تعالى ورضي عنه : أن الجزية لا تقبل من مشركي العرب ، ولا من المرتدين ، وليس إلا الإسلام أو القتل ؛ وتقبل ممن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس. ومذهب الشافعي ، رحمهالله تعالى : لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس ، دون مشركي العجم والعرب. وقال الزمخشري : وهذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق ، رضي الله تعالى عنه ، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ولكن بعد وفاته. انتهى. وهذا ليس بصحيح ، فقد حضر كثير منهم مع جعفر في مؤتة ، وحضروا حرب هوازن مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وحضروا معه في سفرة تبوك. ولا يتم قول الزمخشري إلا على قول من عين أنهم أهل الردة. وقرأ الجمهور : أو
__________________
(١) سورة الروم : ٣٠ / ٧.