قلت : واستمر عمل الملوك وأرباب الحشمة إلى زماننا هذا على الإهداء إلى الحجرة الشريفة قناديل الذهب والفضة.
ورأيت بحط شيخنا العلامة ناصر الدين العثماني أشياء نقلها من خط قاضي طيبة الزين عبد الرحمن بن صالح يتضمن ما كان يرد في كل سنة من ذلك ؛ فذكر في سنة خمسة عشر قنديلا ، وفي أخرى ثلاثة عشر ، وفي أخرى عشرة ، وفي أخرى إحدى وعشرين.
قلت : وفي زماننا هذا يرد في غالب السنين ما يزيد على العشرين ، ولا ضابط لذلك ؛ فإنه يرد من نذور من ناس مختلفين ، وكأن هذه القناديل كانت إذا كثرت رفعوا بعضها ووضعوه بالحاصل الذي في وسط المسجد ، فاجتمع فيه شيء كثير فاتفق على ما ذكره الحافظ ابن حجر في سنة إحدى عشرة وثمانمائة أن فوض السلطان الناصر فرج لحسن بن عجلان سلطنة الحجاز ، فاتفق موت ثابت بن نغير ، وقرر حسن مكانه أخاه عجلان ابن نغير المنصوري ، فثار عليهم جماز بن هبة بن جماز الجمازي الذي كان أمير المدينة ، وأرسل إلى الخدام بالمدينة يستدعيهم ، فامتنعوا من الحضور إليه ، فدخل المسجد الشريف ، وأخذ ستارتي باب الحجرة ، وطلب من الخدام تسعة آلاف درهم على أن لا يتعرض لحاصل الحرم ، فامتنعوا ، فضرب شيخهم ، وكسر قفل الحاصل ، هكذا رأيته في «أنباء الغمر» للحافظ ابن حجر.
والذي رأيته في محضر عليه خطوط غالب أعيان المدينة الشريفة ما حاصله : أن جماز بن هبة المذكور كان أمير المدينة ، فبرزت المراسيم الشريفة بتولية ثابت بن نغير إمرة المدينة وأن يكون النظر في جميع الحجاز لحسن بن عجلان ، ولم يصل الخبر بذلك إلا بعد وفاة ثابت بن نغير ، فأظهر جماز بن هبة الخلاف والعصيان وجمع جموعا من المفسدين وأباح نهب بعض بيوت المدينة ، ثم حضر مع جماعة إلى المسجد الشريف ، وأهان من حضر معه من القضاة والمشايخ وشيخ الخدام باليد واللسان ، وشهر سيفه عليهم ، وكسر باب القبة حاصل الحرم الشريف ، وأخذ جميع ما فيها من قناديل الذهب والفضة التي تحمل على تعاقب السنين من سائر الآفاق تقربا إلى الله ورسوله وأشياء نفيسة وختمات شريفة وزيت المصابيح وشموع التراويح وأكفان ودراهم يواري بها البطحاء ، وقطع مكاتيب الأوقاف وغسلها ، وقصد الحجرة الشريفة ، وأحضر السلم لإنزال كسوة الضريح الشريف والقناديل المعلقة حوله ، فلم يقدّر له ذلك ومنعه الله منه ، وأخذ ستر أبواب الحجرة الشريفة من خزانة الخدام ، وتعطل في ذلك اليوم وليلته والذي يليها المسجد الشريف من الأذان والإقامة والجماعة ، وأخذ جماعته وأقاربه في نهب بيوت الناس ومصادرتهم ، وأخذ جمال السواني ، وارتحل هاربا عقب ذلك ، ولما اتصل بحسن بن عجلان ما فوض إليه من أمر الحجاز استدعى بعجلان بن نغير وأقامه في إمرة المدينة ، وعرفه ما برزت به المراسيم أولا في ولاية أخيه ، انتهى.