قال السبكي : ولا يغلط في أن ذلك يصرف إلى فقراء الحرم ، فإنما يكون ذلك إذا كان الإهداء إلى الحرم أو إلى مكة ، أما إذا كان للكعبة نفسها فلا يصرف إلا إليها ، كأن تعرض لها عمارة فحينئذ ينظر : فإن كانت تلك الأموال قد أرصدت لذلك صرفت فيه ، وإلا فيختص بها الوجه الذي أرصد له ، فالمرصد للبخور مثلا لا يصرف للسترة.
قال : وأما القناديل التي فيها والصفائح التي عليها فلا يصرف منها شيء ، بل تبقى على حالها ، وقول عمر «لقد هممت ألّا أدع فيها صفرا ولا بيضا» محتمل للنوعين ، ولم ينقل إلينا صفتها التي كانت ذلك الوقت ، ومن قال أول من ذهّب البيت في الإسلام الوليد لا ينفي أن يكون البيت ذهّب في الجاهلية وبقي إلى عهد عمر.
قلت : قد نقل التقي الفاسي عن خط الحافظ رشيد الدين بن المنذري في اختصاره لتاريخ المسبحي ما لفظه : وفيها ـ أي سنة خمس وستين ـ استتم ابن الزبير بناء الكعبة ، ويقال : إنه بناها بالرصاص المذوب المخلوط بالورس ، وجعل على الكعبة وأساطينها صفائح الذهب ومفاتحها ذهبا ، اه. فإن صح فهو أولى ما يحتج به.
ثم نقل السبكي عن الرافعي أنه قال : لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة وتعليق قناديلها. ثم نقل أن في تحلية الكعبة والمساجد بالذهب والفضة وتعليق قناديلها وجهين مرويين في الحاوي وغيره : أحدهما : الجواز ، تعظيما كما في المصحف ، وكما يجوز ستر الكعبة بالديباج ، وأظهرهما المنع ؛ إذ لم ينقل ذلك عن فعل السلف ، ثم استشكل كلام الرافعي فقال : وأما التسوية بين الكعبة والمساجد فلا ينبغي ؛ لأن للكعبة من التعظيم ما ليس للمساجد ، بدليل جواز سترها بالحرير إجماعا ، وفي ستر المساجد به خلاف ، فحكاية الخلاف فيها مشكل ، وترجيح المنع أشكل ، وكيف وقد فعل ذلك في صدر هذه الأمة ، وقد تولى عمر بن عبد العزيز عمارة مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الوليد وذهّب سقفه بأمره من غير مراجعة ، بل لما ولي الخلافة بعد ذلك أراد أن يزيل ما في جامع بني أمية من الذهب فقيل له : إنه لا يتحصل منه شيء يقوم بأجرة حكّه ، فتركه. والصفائح التي على الكعبة يتحصّل منها شيء كثير ، فلو كان فعلها حراما لأزالها في خلافته ، فلما تركها ومعه جميع من يحج كل عام وجب القطع بجوازها ، وهذا في تحلية الكعبة بالصفائح ، ولا منع من جريان الخلاف في التمويه لإزالة المالية ، ولا من إجراء الخلاف في سائر المساجد تمويها وتحلية ، على أن القاضي حسين جزم بحل تحلية المسجد بالقناديل من الذهب ونحوها ، وأن حكمها حكم الحلي المباح ، وهذا أرجح مما قال الرافعي ؛ لأنه ليس على تحريمهما دليل ، والحرام من الذهب إنما هو استعمال الذكور له ، والأكل والشرب ونحوهما ، وليس في تحلية المسجد بالقناديل ونحوها شيء من ذلك ، لكن لا أقول إنه ينتهي إلى حد القربة في سائر المساج ،