تلك الحمارة : أما ترون هذا الفتى وإقبال أمره ، إنّه مذ نشأ لو عمد إلى حجر لانفلق له عن رزق ، قال : وكان الأسقف قد أوصاني إذا أنا وصلت إلى أصحابي ، واستغنيت عن الحمارة جعلت رسنها في أحد جانبي الخرج ، وأشدّ الخرجين عليها شدا متقنا ، وأدعها بمكانها حيث كانت ، ففعلت بها ذلك ، فقال لي أبو سفيان : ما هذا؟ فقلت : ما ترى ، فقال : تدع حمارة مثل هذه معرضة للصوص والسباع ، فقلت : بهذا أمرني صاحبها ، وهو أعلم بشأنها مني.
قال : فسمّي ذلك الموضع والركن الذي فيه : ركن الأتان ، وسرنا حتى أتينا (١) مكة ودار في نفسي ما سمعته من كلام الأسقف ، فأسررت ذلك إلى حاضنة لي ذات فهم وعلم ، فقالت لي : يا بن الخطّاب ، فإنّي لم أزل أتوسم فيك الخير وأنت صغير ، وذاك أني رأيتك يومئذ في ما يرى النائم وأنت تطول حتى لم أستطع النظر إلى وجهك لطولك ، ثم مددت يدك اليمنى فنلت بها السماء فقلت في منامي : ما بال ابني؟ فقال لي قائل : إنه سينال خير الدنيا والآخرة ، قال : ونحن في جاهلية لا نعرف معنى هذا الكلام ، وكان بمكة رجل من أهل الكتاب يخفي أمره ويكتم شأنه ، إلّا أن أكابر قريش يعرفونه ويكرمونه ، وربما شاوروه في الأمر يحدث لهم ، فطرقته نصف النهار ، ودخلت عليه ، فقلت له : اغلق الباب ، فإنّ لي بك خلوة ، ففعل ، ثم قلت : إنّي أذكر لك حديثين ومسرهما إليك فلا تخبر بهما أحدا ، فقال : نعم ، فقصصت عليه ما قال الأسقف بدير العدس ، وبما أخبرتني به حاضنتي من الرويا ، فلمّا فرغت أقبل عليّ فقال : يا بن الخطاب ، أمّا ما ذكره الأسقف فهو اليوم أعلم من بقي على وجه الأرض من النصارى ، وما أخبرك إلّا بالحقّ ، وأمّا الرؤيا ، فإنه سيحدث بمكة عن قريب أمر يتغير به جميع ما ترى ، وقد أظلّ فإذا رأيت أوائله يا بن الخطاب فائتني ، فإن فيه مصداق ما أخبرك به الأسقف ، فقلت : وما هو؟ فقال : لن يخفى عليك ، فأول أمر تراه يحدث فهو هو. قال : فانصرفت من عنده ، وأنا أتوقع ما قال ، فمات بعد أيام ، وظهر من ذكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيء تحدث به قوم من قريش ، وجعلوا يتذاكرونه بينهم على سبيل الهزء (٢) ، فقلت في نفسي : لئن كان هذا حقا لهو [الرجل](٣) الذي أخبرني به الرجل الكتابي ، ولم يزل ذلك يقوى حتى أظهر الله الإسلام.
__________________
(١) كذا بالأصل وم ، وفي «ز» : دخلنا.
(٢) قسم من اللفظة ممحو بالأصل ، وهي غير مقروءة فيه ، والمثبت عن «ز» ، وم.
(٣) زيادة عن المختصر.