الأمواج ، فما لعبت أيدي الرّياح بتلك الرخاخ ، ولا لغبت تلك النعم المعقلة في ذلك المناخ.
ثم إن الرّوم أقاموا المجانيق ، وأحكموا بناءها الوثيق ، وصنعوا منها ثلاثة قائمة في الهواء ، قاصمة بالدّاهية الدّهياء (١) ، مظهرة قطع الجبال طيرا مسخرات في جو السّماء ، ترمي فوق العشرين ربعا ، وتملأ القلوب رعبا ، وكان رميها داخل البلد فأخليت جهة وقع حجارتها ، وتنحّى المزور عن طريق زيارتها ، وعدلوا عنها إلى أقل حجما ، وأقتل رجما ، وأمطر سحابة (٢) ، وأكثر إصابة.
فكملت في الأيام القريبة ، ومني البلد منها بالأيام العصيبة ، والرّزايا المصيبة ، وكان رماتها أخذوا قراءة الرّماية عن القارة ، ورموا منها عن القسي الصقارة ، فاستعملت في تركيب السّور طريق التحليل ، وجاءت بما لا قبل به من الخطب الجليل ، وتمكّن الدّاء من ذلك الجسم المعتل ، واشتكى البناء من الحجر المنهد بالحجر المنهل ، وعزائم المسلمين في القتال ثبتت وما انثنت ، وقوتهم ما وهت ولا وهنت.
وكانت لهم على باب الكحل قنطرة يخرجون عليها إلى العدو ، ويمنعونه من التبسط والدنو ، فرأوا هدمها مكيدة ، وحسبوا زوالها منفعة عتيدة ،
__________________
(١) الداهية الدهياء : من شدائد الدهر وعظائم نوائبه التي تصيب الناس. قال الشاعر :
أخو محافظة إذا نزلت به |
|
دهياء داهية من الأزم |
لسان العرب ، ج ١٤ ، ص ٢٧٥.
(٢) استعارة مكنية شبّه فيها المؤلف الحجارة الصغيرة التي كانت ترميها المجانيق بالسحابة التي تمطر ماء.