بمعنى أنه قوض الظلة («أراغ بنيانه») ، أي بعد تحديد موقعه نهائيا ، قرر سعد بناء المسجد بناء صلبا مصمما ، والمقصود حجرة الصلاة فقط (١). وهكذا وإلى حد الآن فإن نص سيف لا يتناقض مع نفسه إطلاقا. لا بد أن تكون الظلة وجدت منذ البداية ، ثم تحسن بناؤها بعد ذلك ، ويحتمل أنها بنيت بالآجر ، وألحق بها صحن سيء الغلق كان يفتح على الخلاء الخارجي ، لكنه كان لا محالة محدد الأبعاد. ولذا فإن مجال المسجد الأصلي لم يكن مجالا خاليا بل كان مفتوحا من ثلاثة جوانب وغير مستكمل. والمرجح أنه بني من جانب واحد بناء سيئا. وإني أقول «المرجح» لأنه افتراض لا تسمح به رواية سيف بصفة صريحة. بل بالعكس ، يحثنا على ذلك غموضه في هذه النقطة بالتحديد ، إلى جانب المقارنة بين مختلف المصادر المتاحة لدينا ، والمصداقية التاريخية. ومن هذه الوجهة ، يكون نص سيف متضاربا ، غير دقيق بصفة تامة. فقد أشار إلى الظلة الأولى قائلا :
«وكانت ظلته مائتي ذراع (نحو ١٠٨ أمتار) على أساطين رخام كانت للأكاسرة ، سماؤها كسماء الكنائس الرومية».
وأضاف بعد قليل أن زيادا جلب أعمدة من الأهواز ثقبت وحشيت بالرصاص. ثم تمّ تمتينها بسفافيد من حديد ارتبطت بها مع السقف ، هذا السقف المرتفع الذي حملته (٢).
وهو يتكلم تارة عن دهقان من همذان وتارة عن روزبه ذاك البنّاء المعماري الذي كثيرا ما يرد اسمه ، ويؤكد أن هذا الأخير استخدم عملة من عرب الحيرة النساطرة وهم العباد. إن الشبه بين هاتين الروايتين لمراحل متغايرة ليس بتمام الاكتمال ، لكنه ملفت للنظر. وهو يسمح لنا بتأويل المرحلتين الأوليين على أنهما إسقاط للمرحلة الأخيرة (فترة زياد). ذلك أن المصادر الأخرى ، وهي قليلة التعرض لهذا الموضوع ، تنسب حادثة استيراد أعمدة الأهواز إلى زياد ، لكنها لا تتكلم البتة عن أعمدة من رخام في خصوص عصر سعد (٣). يؤيد النص الموجود في الفتوح للبلاذري ، ما قاله غرابار ، وهو يتلخص في أنه يمكن للقبائل البناء من
__________________
وقد أكد كرسويل وجود النمط المعماري لبلاد الرافدين في البناء : Creswell ,op.cit.,pp.٧١ ـ ٨١ ويضيف أن سقف المسجد بالكوفة كان من خشب.
(١) لو أن الظلة بنيت بناء صلبا منذ البداية بسقف على النموذج الشامي البيزنطي ، لما كان من المتيسر هدمها وإعادة البناء على بعد ١٠٠ متر.
(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٤ ـ ٤٦.
(٣) فتوح البلدان ، ص ٢٧٦ ؛ ياقوت ، معجم البلدان : ج ٤ ، ص ٤٩١ ، يؤكد أن زيادا كان أول من بنى بالآجر وأنه أتى بالاساطين من الأهواز. ويروي ياقوت في ص ٤٩٢ من الجزء نفسه ، أن عبيد الله بن زياد هو الذي بنى المسجد بناء صلبا ، وهي رواية تلتقي مع ما ورد في الأخبار عن ثورة مسلم بن عقيل حيث نرى جند ابن زياد يجوسون في ظلال المسجد على ضوء القناديل : راجع الطبري ، ج ٥ ، ص ٣٧٢.