كان موجودا منذ ابتداء الفتح ، متقفيا الجيش ، متصيدا الغنيمة (١). لكن هل نحن على يقين من إنشاء السوق لمثل هذا الصنف من المبادلات وحتى لهذا الصنف البشري ، أي لتاجر الجيش ، المضارب المغامر المتجول؟ إن السوق المركزية ، كما سيظهر ذلك من خلال تطورها اللاحق ، مكان للمبادلات ومكان للانتاج. وقد أنيطت بها خدمة جماعة في سبيل التمركز والاستجابة لحاجاتها الحيوية. وهنا أيضا ، كان عالم سوق الجيش مدعوا للاستقرار ، وتكييف نشاطاته مع نظام المدينة الجديدة ، تماما كما كان المقاتلون يتمصرون. اللهم إلا إذا كان تقاطر على السوق صنف آخر من التجار والصناع ، صنف من غير المضاربين في الجيش ، من المستقرّين الأصليين ، قدموا من المدائن أو من غيرها من البلاد ، مختصّين ، قنوعين بالربح القليل من نمط تجّار الدّكاكين. ونحن نعلم أنّ السوق ستمتلىء فيما بعد بالعبيد والموالي.
أما على صعيد التمصير ، فإن التحديد المجالي هو الذي يشد انتباهنا في الواقع. لم يهتم بالأمر سوى مصدرين فحسب : هما سيف (٢) واليعقوبي في كتاب المدائن (٣). فلم يذكر البلاذري شيئا بخصوص هذه الفترة التأسيسية ، لكن بالطبع وردت إشارات متفرقة عن العصر الأموي ، تأتي في سياق الخبر السياسي (٤) (الطبري) ، أو في طيّات التراجم لرجال الدين (ابن سعد) (٥).
وما يترتب عن كل هذه الأمور ويلفت نظرنا فورا ، أن السوق أو الأسواق لا بد أن موقعها كان إلى شمال المسجد وإلى شرقيه ، وأنها كانت محيطة بواجهته الشمالية ، وقاضمة من واجهته الشرقية ، غير بعيدة عن زاوية القصر الشمالية الشرقية. ويمكن أيضا التفكير مع الجنابي (٦) أنها كانت تقع شرقي المسجد وتبلغ الواجهة الشمالية للقصر. روى سيف خبرا جاء فيه أن صبر سعد قد نفد لتصاعد ضجيج السوق إليه وهو جالس في القصر يتحدث (٧). كما توفر خبران متكاملان ، أحدهما لسيف والثاني لليعقوبي ، القصد منهما تبرير امتداد السوق بجوار الجهة الشمالية للمسجد مباشرة ، حتى الحدود الشرقية الشمالية للصحن. وقد ذكرنا أن سيفا تحدث عن نقل المسجد في اتجاه الجنوب ، وبذلك توفر فراغ
__________________
(١) صالح أحمد العلي ، التنظيمات ، ص ٢٦٣.
(٢) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.
(٣) كتاب البلدان ، ص ٣١١.
(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٩ وص ٣٠.
(٥) الطبقات ، ج ٦ ، ص ١٣٦ وص ٢٢٦.
(٦) الجنابي ، مرجع مذكور ، ص ٨٦.
(٧) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٧.