هذا لا يمكن أن تتسبب ظروف النمو المقبل وأسلوبه وحدها في التطور الفوضوي ، إذا ما حصل مثل هذا في الكوفة. رأيي أنه ينبغي العودة بصفة مطلقة إلى هذين العنصرين الأوليين ، نعني وجود الأزقة وما كان من نقص هيكلي في المساحة الصالحة للسكن. يشكل الزقاق ، قطعا ، جزءا من جهاز المناهج ، إلا أنه كان أكثر اندماجا بالمجال الصالح للسكن ، لأنه ينفتح على الدور ويقسم القطيعة قسمين. فكان دوره مهمّا فيما سيكون للكوفة من مظهر بحيث صار بمثابة السكة المعهودة التي اندمجت حقا بالنسيج السكني ، ولعله بقي العنصر الوحيد من جهاز المناهج ، باستثناء المنهج الكبير. لكن الزقاق لما كان عليه من ضيق ، كان مع هذا منتظما وغير قابل للضغط. وعلى ذلك ، فقد استمر قائما ، في حين أن المناهج الأخرى الطولية قضمت وألحقت إلى أقصى حد بالمجال السكني. ومن المعلوم أن المنصور قمع هذه النزعة في بغداد ، أي نزوع الأهالي إلى تجاوز المناهج الكبرى ، فهدم الدور التي خرجت عن الطرق (١). ولذا ، هناك اندفاع طبيعي أو ما يشبه ذلك يتجه من مناطق السكن إلى مجالات الاتصال. وسبب ذلك رقة القطيعة والخطة بصورة عامة ، وكذلك ما فرض من تحديد على عرض القطيعة ، مقتبس من عرض المناهج. وهذا جعل منها نوعا من الطريق التي لم تتسع إلا قليلا ، وجعل من الخطة القبلية بتمامها بنية تتناوب فيها السيور الخالية والسيور العامرة. وبقدر ما كانت النظرة كبيرة في نسق الطرق ، فإنها كانت قد صغرت في نسق القطائع ، كأن الطرق تفوقت على القطائع ، كما تفوق المجال العمومي على المجال الخاص : هذا تعبير عن استخدام جماعي للمجال من مجموعة تنشر حياتها خارج البيوت. ولا أعتقد أنه يجب اعتبار تصور الحزام السكني بمثابة ثنائية معينة ، بين نسق الطرق المستمد من أشكال هلينستية من جهة ، ونسق المساكن الذي يكون بذلك عربيا صرفا ، حيث أن أسلوب الحياة بالذات يوجب وجود التنقل وتحقيقه بصفة ميسرة.
لقد اتضح لنا أن القطيعة لا تكفي لقبول مزيد من السكان. فهي مصممة لإيواء وحدة بشرية هي العشيرة ، ولذا كانت إقطاعا جماعيا يستبعد الملكية الفردية ، فانتصبت إطارا ملزما لاستقرار كل فرد من أفراد العشيرة. كان إذن المجال الاجتماعي ، كما المجال المادي للقطيعة ، يضغط عليها في سبيل الضيق. ومن هنا نجد في الأساس البذرة لكي يتجه التطور المقبل إلى صنف مدني ضاق ضيقا مشطا ، بسبب تطور انعكاسي تماما ابتلع فيه المجال السكني نسق الطرق فارضا وجهه المعتم في كل مكان. ويمثل هذا الأمر انتقاما موجها إلى المنهج ، مصدره القطيعة. لم يتحول الزقاق إلى طريق مسدودة أو إلى سكة ملتوية ، بل إن نقص الفتحات العرضية وأحيانا مجرد فقدانها في التصميم الأصلي ، هو الذي
__________________
(١) الطبري ، ج ٧ ، ص ٦٥٤.