وللمثنى في التغلب على صدمة الهزيمة ناسبا إياها إلى الخطأ لا إلى ضعف عسكري هيكلي.
ولو لا إصرار عمر ، ولو لا ما بذله المثنى من جهد تنظيمي حيث نراه دائما مستعدا لتصحيح أخطاء الآخرين ، خاضعا لتدخلات السلطة بالمدينة وعزمها على إبعاده عن القيادة ، لبدا فتح العراق بعد انهيار الجسر أمرا بعيد المنال بالنسبة للعرب. ومن يدري ، لعل فتح الشام أيضا ستهدده بعد ذلك وعلى المدى المتوسط الدولة الفارسية لو أتيح لها الوقت لاسترداد قواها.
٢) البويب
بقي المثنى وحيدا من جديد. وتعذر استغلال التقدم الذي اكتسبه الفرس في معركة الجسر ، لما كانوا عليه من خلافات داخلية (١). لكن المثنى احتاط وتراجع إلى الطفّ ، فبلغ إمّا أليس الصغرى ، أو أقام بين خفان والقادسية تاركا الحيرة. عند ذلك قرر عمر توسيع التجنيد ، وتجاوز الدائرة المدنية ـ القرشية ـ الثقفية من العرب المستقرين الأوفياء للسلطة الحاكمة ، وقرر تعبئة القبائل والعشائر داخل جزيرة العرب. كان هذا الانفتاح تدريجيا لا محالة ، يجري حسب نظام التطوع كالعادة وبمساعدة شيوخ العشائر ، ولم يتقرر ، بعد آنذاك استنفار العناصر التي أمعنت في الردة. كان عمر يقصد محو هزيمة الجسر وحمل العرب أيضا على قبول فكرة الهجرة إلى العراق (٢) ، فوجهت الدعوة إلى قبيلة بجيلة. وكانت بجيلة من أصل يمني ، وأقامت قبل ذلك بالسراة ثم دحرت وشتتت ، وتفرقت (تحت ضغط الأزد؟). وكان جرير بن عبد الله البجلي وهو من صحابة النبي ومن المقربين لعمر ، يسعى إلى جمع أفراد هذه القبيلة المتفرقين ، ويحاول أن يعيد تشكيل قبيلته فردا فردا (٣). فالتقى مشروع
__________________
٤٥٨. ولنذكر أن القرآن بعد وقعة أحد أنب المؤمنين الفارين من القتال ، إلّا إذا حصل تجمعهم لدى مؤمنين آخرين : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الأنفال ، ١٦. واعتمد عمر تفسيرا آخر للآية ليعيد لرجاله هيبتهم كما كانوا يتصورونها. وتحدث أيضا البلاذري عن تقتيل الأنصار ، ص ٢٥٣ ، لكن القصة التي أوردها عن معركة الجسر كانت موجزة ضعيفة التماسك في مجموعها.
(١) روى ذلك الطبري نقلا عن سيف قال : «وأتى ذا الحاجب الخبر باختلاف الفرس» ، ج ٣ ، ص ٤٥٨. وعاد بجيشه.
(٢) الطبري ، التاريخ ، ص ٤٦٠ ـ ٤٦٤ ؛ الدينوري ، ص ١١٤. كان على عمر أن يقنع المتطوعين ، وأكثرهم من القادمين من اليمن ، باختيار الإقامة في العراق.
(٣) لعلّ بجيلة تفرقت بعد حرب الفجار : الجمهرة ، ص ٣٩٠ ، فاعتزم جرير جمعها في حياة الرسول حيث حصل على وعد منه في هذا المعنى ، فذكر أبا بكر بالأمر حين انضم إلى جيش الشام ، لكن أبا بكر أجّل المشروع إلى وقت لاحق لكثرة مشاغله : الطبري ، ج ٣ ، ص ٣٦٥. والملاحظ أن نسبته لحمير لا لبجيلة في هذا الخبر. وتوجد هذه النسبة أسفل الوثائق التي يعتقد أنها أبرمت بين خالد وأهل الحيرة : المرجع نفسه ، ص ٣٦٨