والمصادر نفسها لا تخول لنا وضع السماسرة في بيع الرقيق أو النخاسين في الكناسة كما فعل ماسينيون أيضا دون برهان (١). ويكفي ما روي صراحة بخصوص مسلمة بن عبد الملك الذي هدد ببيع بني المهلب رقيقا بعد ثورة يزيد (سنة ١٠٢ ه) (٢) في دار الرزق ، للتدليل على أن هنا لا بالكناسة كانت تعقد مثل هذه الصفقات المرتبطة بالحرب ، وبالدور الاقتصادي التوزيعي للدولة ، المتركز بدار الرزق فعلا.
وبقدر ما كان هذا المخزن الكبير للدولة يوزع على فترات منتظمة المنتوجات الغذائية على السكان العرب في شكل أرزاق ، فقد كان على هؤلاء السكان خزنها والاستغناء بذلك عن نقاط البيع بالمفرّق داخل خطط القبائل ، إذ لم يرد ذكرها بالمرة. وهكذا نجد أسواقا كبرى ومؤسسة عمومية تشرف عليها الدولة من جهة ، وشكلا اقتصاديا عائليا من جهة أخرى ، فضلا عن نشوء أسواق جديدة خارج الكوفة ، حين بدأت المدينة تزدهر. كان أسد بن عبد الله القسري شقيق خالد ، واليا على خراسان مدة ، فأمر ببناء قرية وسوق في منطقة الكوفة. وسمي هذا المركّب (سوق أسد) باسم السوق الدورية أو الدائمة. وقال البلاذري إنه «نقل إليها الناس» ، مضيفا أنها كانت معسكره أصلا ، عند توليه خراسان (٣). إن هذه المدينة ـ السوق التي تدور في فلك الكوفة ، أنشئت إنشاء إراديا ، وكانت في آن مستقلة ومرتبطة بوجود الكوفة. ولها مقابل في إنشاء يوسف بن عمر لسوق يوسف في الحيرة بالذات (٤).
وقد استرجعت هذه المدينة العربية القديمة الموجودة قبل الإسلام عنفوانها في عصر هذا الوالي (١٢٠ ـ ١٢٦) ، واعتاد الولاة الإقامة بها حتى فترة ابن هبيرة ، بحيث يمكن التساؤل عما إذا لم تصبح لحين المقر غير الرسمي للحكم في العراق ، الأمر الذي يبين إرادة الابتعاد عن الكوفة والاقتراب منها في آن ، بالتخلي عن واسط. وبدون أن نقول إن «أرباض» الكوفة صارت تمتد حتى الحيرة ، وهي ظاهرة سوف ترى فيما بعد أي في القرن الثالث كما أثبتته آثار الحفريات ، فإنه يمكننا التأكيد أن الحيرة دخلت في فلك الكوفة سنة ١٠٠ ه ، فأصبحت تعيش ملتحمة بها. لقد ولى الزمن الذي كانت تؤثر تأثيرا عميقا على المصر ، من حيث الهندسة المعمارية والكتابة والصياغة (كانت سوق الصاغة من الحيرة) والخزف والتقنيات المصرفية والصيرفة (٥) ، مع بقائها منعزلة لأنها كانت مقرا لشكل عروبي
__________________
(١) Ibid.,p.٣٥.
(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٦٠٢.
(٣) فتوح البلدان ، ص ٢٨٤ ؛ ابن الفقيه ، ص ١٨٣ ؛ ياقوت ، ج ٣ ، ص ٢٨٣.
(٤) ابن الفقيه ، ص ١٨١ ، ياقوت ج ٣ ، ص ٢٨٥.
(٥) Massignon ,op.cit.,p.٩٤.