السواد وما وراءه من البلاد الإيرانية إلى المدن المستهلكة في بلاد العرب ، وهي مدن مثقلة بالمال. ولم يكن لبلاد العرب ما تبيعه إلا ما قلّ ، باستثناء جمالها خاصة. مما جعل للجمل دورا مزدوجا كما ازدوج دور الكناسة : كان دابة للحمل ودابة للتوريد ، وكانت الكناسة سوقا للقوافل وسوقا للجمال.
ولا ينبغي تصور الكناسة كتنويعة من الأسواق المركزية ، بل كسوق دائمة ومرفأ ونقطة المنتهى. كانت الكناسة سوقا كلها تلونات ، وكانت مكانا يلتقي فيه عالمان يسودهما الطابع العربي. وهي أفرزت سوقا داخلية استهلاكية حيث يباع الصحناة ، وهو طعام من السمك ، كما ذكر في ملامة عنيفة وجهها شبث بن ربعي إلى أحد موالي المختار (١).
ولذا ، صارت بصورة طبيعية ، مكانا مرموقا للشعر البدوي ، مثلها مثل المربد في البصرة ، لكن بدرجة أقل (٢). وإنها لصورة مؤثرة لم تكن لتتكرر كل يوم تلك التي تظهر لنا أحد الشعراء واقفا على ناقته ينشد إحدى قصائده التي تثير حساسية طفل. وهذا المنظر يوحي لنا بقوة المناخ الثقافي وعمق الحيوية الاجتماعية بالكناسة (٣).
لا فائدة من العودة إلى الدور السياسي العسكري الذي كان للكناسة. ولعله كان أهم من دور الجبّانات الكبرى ، لأن الكناسة كانت نقطة تجمع لتميم وحلفائها من ضبة وعبس ثم لكونها ملكا للمدينة كلها. كانت مكانا عموميا مزدوجا بالنسبة للمجتمع المدني كما للسلطة التي لم تمتنع عن جمع جنودها فيها (ابن مطيع مثلا) (٤) ، وعرض المصلوبين. وخلافا لما جاء بخبر قليل الوثوق (٥) ، فإن هانىء بن عروة لم «يصلب» بالكناسة ، بل قتل في ساحة السوق التي لم تكن قد بنيت في ذلك العصر (٦). لكن لا يبقى أي شك في عرض جثة زيد بالكناسة على جذع نخلة ، وقد نصبت عليها الحراسة ليل نهار من قبل جنود الوالي (٧). فظاهرة الصلب بالكناسة ظاهرة متأخرة إذن وتبدو منعزلة في المصادر فلا تمكننا من نعت الكناسة بأنها «مكان للشنق» ، كما قال ماسينيون (٨).
__________________
(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٥.
(٢) الأفغاني ، أسواق العرب ، ص ٤٠٧.
(٣) الأغاني ، ج ١٤ ، ص ٣٠.
(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٩.
(٥) الطبري ، ج ٥ ، ص ٣٥٠ ، في حين أن أبا مخنف قال إنها السوق.
(٦) انظر ما سبق.
(٧) الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٠ ـ ١٩٠. وكانت ترمى بالكناسة جثث المسجونين إذا ماتوا : ابن سعد ، طبقات ، ج ٦ ، ص ٢٨٥.
(٨) Op.cit.,p.٣٥.