حاربت من البداية لفتح العراق (من بكر وعجل وبجيلة) تقهقرت لصالح اللاحقين ، وضعفت نسبة المخلصين القدامى للإسلام لصالح المرتدين السابقين ، وأخيرا تناقصت أعداد العناصر المحتكّة بحضارة المدن المرتبطين من قديم بالخارج لصالح المجموعات البدوية الضاعنة الكبرى التي برزت من أعماق بلاد العرب. هذا ما يمكن استنتاجه على الأقل من شعور يوحي به الوصف المفضل الذي قدمه سيف بن عمر والذي عملنا على استكماله (راجع الجدول على ص ٣٢ ـ ٣٣).
لقد شكك كايتاني في هذا الوصف ، معتمدا روايات أهل المدينة فقط ، التي كانت قليلة الإسناد والمعلومات ، فألغى حضور المرتدين متهما سيفا بالمودة المتحيزة للبدو أجداد سكان مدينة الكوفة (١). صحيح أن سيفا يقدّم وقعة القادسية كأنها انتصار للموجات المتأخرة من البدو ، فلم يعد يتحدث عن بكر ، وهو على العكس يمجد القادة المرتدين الكبار ـ وهذا يبرر نقد كايتاني ـ لكن بخصوص سير المعركة لا غير. ذلك أن مصداقية سيف أكيدة في كل ما يتعلق بتجمع الجيش ، وتركيبه ، وهيكلته ، وكلّ ما يذكر من توافد الرجال من أسد وتميم ، والرباب ، وغطفان (٢). وكيف نقبل أنه لم يكن يوجد في القادسية سوى ٦٠٠٠ أو ٧٠٠٠ رجل في حين أن جيش المثنى وحده كان يعد العدد نفسه (٣).
كيف يتاح لنا فهم الكوفة العتيدة دون وجود جيش سعد في شراف كما وصفه سيف؟ لا مناص من التأكيد على أن كايتاني لم يفهم لا معنى ولا أهمية استخدام أهل الردّة في عملية الفتح ، وقد لفت شعبان Shaban فقط النظر إلى هذه الظاهرة منذ مدة قريبة (٤). ولنا مزيد من التدقيق فيما ذكره سيف بهذا الصدد (٥) ، إذ يقول : «استنفرهم عمر ولم يولّ منهم أحدا».
__________________
(١) Caetani ,Annali ـ ـ ـ ,III ,٢ ,p.٧٥٦.
(٢) إن حسابات سيف دقيقة جدا ، فلا يمكن التشكيك فيها. وهي تتفق ومعلوماتنا عن الكوفة العتيدة وتؤيدها معلومات دقيقة وردت بالجمهرة لابن حزم : مثلا ص ١٩٤ ، حيث تعرضت لعشيرة بني الحارث بن ثعلبة بن دودان (أسد) التي لعبت دورا ما في القادسية. ورد ذكر تميم وبني عمرو ، ص ٢١٤ ، وبني رياح بن يربوع ، والأبناء ، وبني شيطان ص ٢٢٨ ، على أنها أقامت بالكوفة. وكانت فعلا عشائر قد شاركت في معركة القادسية ، خلافا لأكثر تميم البصرة. وصف ابن حزم بني الأعرج من الأبناء بأنهم ساهموا في المعركة ولذا يبدو عدد ٤٠٠٠ رجل من تميم معقولا ، ويجعل البقية محتملة.
(٣) يبدو لنا أن الأرقام التي ذكرها عوانة (٧٠٠٠) ، واليعقوبي (٨٠٠٠) ، وابن اسحاق (٦٠٠٠) ، وأوردها كايتاني (Annali ,III ,٢ ,p.٥٤٦ ff). غير صحيحة وكذلك الأمر بالنسبة للأرقام التي ذكرها الواقدي وأوردها البلاذري في فتوح البلدان ، ص ٢٥٦.
(٤) Shaban ,.Islamic History ,p.٦١ ff.
(٥) التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤٨٩.