بالمساحة العمومية وتخترقه السكك المختطة اختطاطا هندسيا (١). إن تقسيم المدينة المستديرة إلى منطقتين مجاليتين ـ أي المساحة العمومية ومساحة للاقامة ـ يظهر استمرارا ممتازا لتركيبة الكوفة. وقد ذكرنا أن هذا التطور ظهر أول ما ظهر بالكوفة ، وما يلفت النظر أن كل من درس وضع بغداد ، بداية من لاسترانج Le Strange حتى لاسنر ، مرورا بهرزفلدHerzfeld وكرسويل وعبد العزيز الدوري وصالح العلي ، لم يهتموا بمصير الحزام السكني داخل أسوار المدينة أو أنهم لم يفكروا في اعتباره عنصرا حاسما للبنية المدنية الاسلامية في حد ذاته أولا وفي كونه يتعارض مع المركز السياسي ـ الديني ثانيا. فلو أراد المنصور بناء قلعة فحسب أو «مقرا شخصيا» لما أقيمت هذه المنطقة السكنية وهذه السكك وعددها ٤١ كما ذكر ذلك اليعقوبي (٢). صحيح أن رقة الحزام ـ من ٣٠٠ إلى ٤٠٠ متر عمقا .. أي ما يعادل طول الطاقات ـ لا تؤيد ما كان يتوقع له من أهمية (٣). وصحيح أيضا أن الاقطاعات التي منحها قادة الجيش خارج المدينة المستديرة ، وكان ذلك منذ البداية فيما يظهر ، تدعو إلى القول أن الاسكان تمّ تصميمه خارج المدينة.
على أن المساحة المخصصة للسكن داخل المدينة مهما صغرت ، فإنها تؤيد التصور المدمج للحاضرة على النمط الكوفي ، لأن المركز مهما كان متفوقا ، فإنه لا يبتلع المكان كله. إن وجود مثل هذا الحزام ـ زيادة على بنية المركز نفسه من جامع وقصر ورحبة ـ يحملنا على الاعتراض على تصور المدينة ـ القصر ، ويطرح استمرارية أساسية مع الأمصار.
في حين أن لاسترانج (٤) اعتمد بصراحة المعطيات التي ورد ذكرها لدى اليعقوبي والخطيب البغدادي فوزع على المركز البنايات الادارية ودور أبناء الخليفة ، نجد أن لاسنر قد تصور تصميما آخر تماما. هو أخرجها من المركز وضمها إلى مساحة السكن فشيد حلقة إضافية وترك فراغا بينها وبين القصر (٥) ، معتمدا ما ذكره الطبري لا غير (٦) ، بخصوص
__________________
(١) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٢٤٠ ؛ الخطيب ، ص ٨٩ ؛ Herzfeld ,op.cit.,II ,pp.٣٠١ ff , ؛.Reitemeyer ,pp.٥٥ ـ ٨٥ ولم يتحدث لاسنر عن ذلك قط ، ولم يقل عنها صالح العلي إلا القليل ، بحث مذكور ، ص ٩٤.
(٢) كتاب البلدان ، ص ٢٤٠ ـ ٢٤١. ابن الفقيه يسمّي السكك شوارع غلطا : بغداد مدينة السلام ، ص ٣٦. يبدو أن ما ميز المدينة المستديرة هي السكك. أما الطرق فهي تواجه المحاور الخارجية الكبرى التي تنطلق من الدروب : كتاب البلدان ، ص ٢٤٠ ؛ الطبري ، ج ٧ ، ص ٦٥٤.
(٣) Lassner, Ouvr. cit., p. ٥٤١; Creswell, Early Muslim Architecture, II, p. ٣١.
(٤). Baghdad, during the Abbasid Caliphate, pp. ٤١, ٥١ وقد تجاهل ذلك هرزفلد وكرسويل.
(٥) Lassner ,ouvr.cit.,pp.٤٤١ ـ ٦٤١ ,٧٠٢.
(٦) التاريخ ، ج ٧ ، ص ٦٥٦.