الإيرانية البعيدة عن المركز ، ابتداء من العام ٢٩ ه٦٤٩ / م ، عندما فتحت البصرة خراسان ، في حين كان على الكوفة أن تكتفي بأذربيجان وقزوين ، أقصى ثغر لها ، وهي منطقة قليلة الإنتاج. ومع ذلك ، فرضت خصوصية الكوفة الشيعية نفسها ، بالتغلغل البطيء ، على مرّ العصور وعبر بغداد ، على الوعي الشيعي في الإسلام كله ، ثم عبر قمّ ومشهد ، على الأراضي الإيرانية الحديثة كلها ، في حين أن البصرة لم تكن وحدها التي حددت بنية الإسلام السنّي المتأخر ، على الرغم من الدور المركزي الذي لعبته في بلورة فكرة الجماعة.
بيد أنه لا يمكن حصر إرث الكوفة ، الديني والثقافي ، في نشر التراث الشيعي ، وذلك لأن إسهام الكوفة في بلورة الثقافة العربية الإسلامية الكونية ، يتضح ، بعد التحليل ، أنه أكثر أهمية بكثير ، وأن جذوره تضرب عميقا في هذا المصر الكبير ، على امتداد القرنين الأولين. وقد ورثت بغداد البصرة والكوفة ، هذين المهدين الأساسيين اللذين أرسيا الخطوط الأساس في ثقافة الإسلام ، ووضعا ، كلّ منهما بحسب عبقريته الخاصة ، عناوينها الكبرى : فقد برعت الكوفة في استعادة التراث الشعري العربي ، في تفسير القرآن ، وفي الفقه وعلم الأنساب ، في حين أن البصرة التي كانت أكثر عقلانية وأعمق نقدا ، أبدعت قواعد اللغة العربية ، وكانت البؤرة الأساس لفكر المعتزلة.
فترتان عظيمتان في تاريخ الكوفة الثقافي : الفترة الشفوية (١٧ ـ ١٥٠ ه / ٦٣٨ ـ ٧٦٧ م) ، وهي فترة حمل لم تكن فيها الأمور قد اتضحت بعد ، ولم تكن الثقافة قد تميزت بل كانت ما تزال تبحث لنفسها عن أسس حقيقية؛ والفترة الثانية (١٥٠ ـ ٢٥٠ ه٧٦٧ / ـ ٨٦٤ م) هي فترة التفجر التي أنجبت كلاسيكية حقيقية وأنتجت أعمالا عظيمة. في هاتين الفترتين التاريخيتين ، كان القطبان الأساسيان اللذان تمحورت حولهما الثقافة الجديدة ، هما العروبة البدوية والرسالة الإسلامية ، إذ اتضح أن الشعوب المغلوبة لم يكن لها أي تأثير يذكر. وفي الكوفة تجلّى الخط العربي الذي غدا خطا رائعا ، بلا شك ، بمساهمة عرب الحيرة ، وهو أقدم نموذج للخط العربي بعد ظهور الإسلام ، ولو أننا نجد هذا الخط مثبتا على الدراهم في العهد الساساني. وفي الكوفة أيضا ، في عصرها الأول ، عاش ابن مسعود وعلّم ، وما لبث أن أطلق اسمه على كل شيء ، فسمّي به تيار المحدّثين الذي ارتبط به أتباع ومريدون أمثال علقمة بن قيس ، الأسود بن يزيد ، مسروق بن الأجدع ، عبيدة ، الهمداني وشريح. ويرى شاخت أن الدور الذي لعبه ابن مسعود دور افتراضي بل وهمي ، فقد أسقطت