القروية والانضمام إلى النظام العشائري العام.
ب) الدليل المضاد هو أن البصرة ، التي لم يكن لهذه العناصر من وجود فيها ، تمدّنت بأسرع من الكوفة ، وذلك بحسب ما يقول ماسينيون نفسه (١).
يمكن الاعتراض أيضا بالقول إن التخطيط (وهو قرار الاستقرار والبنيان ، أي النقل العملي لما كان مرسوما على الورق من ترسيمة عمرانية إلى الأرض؛ وتوزيع المواقع والحصص على القبائل)كان من عمل قادة قريش وثقيف الذين انتدبتهم قيادة المسلمين في المدينة ثم الخليفة الأموي في الشام ، كما أن عمليات البناء الفعلية في المدينة ، كانت تجري تحت إشراف مباشر من زياد ، وهو الآخر من ثقيف ، وكان فضلا عن ذلك مطلعا على المهارات الفارسية في هذا المضمار. فإذن ، إن فرضية ماسينيون ، لا تثبت أمام النقد ، ويصبح أكثر عقلانية إسناد هذا الدور التمديني إلى النخب السياسية القرشية والمدينية والثقفية ، وربما أيضا لبعض عناصر من ربيعة (إياد ، عبد القيس ، بكر) ولبعض عرب الضاحية (العربية ـ الفارسية). أما التنفيذ العمراني الفعلي فقد تمّ تحت تأثير فارسي ـ بابلي ، كما تدلّ حكاية بناء مسجد الكوفة على يد زياد ، (٢) وكما يدل أيضا استخدام الآجر المشوي ونمط العمارة العربية في العراق فيما بعد.
من الواضح أن الوجود الكثيف لليمنيين في الكوفة حال دون أن يكون لهم تأثير على الصعيدين المعيشي والحضري للمدينة. ويقضي المنطق أن نبحث عن أدلة لهذا التأثير في ما هو كوفي مخصوص. ولكن من البديهي ألا يكون هناك سوى فرضيات. ليس من شك في أن اللبن ، وهو الآجر المجفف الذي يقطّع ويرقّق ، وبنيت به المدينة كلها ، في المرحلة التي أعقبت مباشرة مرحلة الإسلام الأول (٣) (حيث لم يكن هناك إلا أكواخ من القصب) ، كان من أصل عراقي بحت. وإذا كان ما يزال اليمنيون يستخدمونه إلى يومنا هذا في بناء منازل عالية وجميلة ومتينة فبتأثير من العراق (٤). ومعلوم أن الكوفة كانت تحوي جبانات
__________________
(١) شرح تخطيط الكوفة ، في Opera Minora,III ، حيث يقول (ص ٤١) : «ويمكن الاعتراض بالقول إن البصرة كانت ، هي الأخرى ، مصدرا من مصادر هذه الثقافة» ، وفي ص ٣٩ : «وفي النهاية ، بنيت البصرة بأسرع بكثير مما بنيت الكوفة ... في حين أن الكوفة تتيح لنا أن نتابع عملية التّمدّن عن كثب».
(٢) البلاذري ، فتوح ، ص ٢٧٦.
(٣) الطبري ، ٤ ، ص ص ٤٣ ـ ٤٤.
(٤) شاهدنا عينات منها في صنعاء وفي عتق. ولربما كانت الأكواخ ، هي الأخرى ، من أصل يمني.