هذا العمل تمّ على يد رجل من الجيل اللاحق هو حماد. غير أن هذه الفرضية لم يتم إثباتها بما فيه الكفاية ، لكنها تبرز الدور المركزي الذي اضطلعت به الكوفة ، وتبرز على أية حال الدور الذي تواصل من حماد إلى إبراهيم إلى ابن مسعود ، وهو دور تقرّ الأحاديث بأنه كان أساس المدرسة العراقية. ويرى شاخت أن الجهد الفقهي الحقيقي بذله الجيل الذي كان مجتهدا بين العامين ١٠٠ و ١٢٥ للهجرة ، أي جيل حماد والأعمش. غير أننا نرى أن ذلك الجهد قد أعدّ له الجيل السابق (بين العامين ٧٥ و ١٠٠) الذي يمكن تسميته بالجيل المؤسّس ، وهو جيل الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي. فهؤلاء الثلاثة هم الذين وضعوا أسس معرفة إسلامية لم تكن قد توزعت بعد في الفروع التي تشعبت إليها لاحقا (قراءة القرآن ، تفسير القرآن ، الفقه ، الحديث ، والتاريخ)وأطلقوا وجهة البحث ، وعيّنوا خطوات المستقبل ، وأرسوا من خلال ذلك كله أسس سلطة معنوية متصلة بالعلم. بين هؤلاء الآباء الثلاثة ، اثنان من أصل يمني محض. كثيرون هم الكوفيون اليمنيون الذين تركوا بصماتهم على الإرهاصات العلمية الأولى ، سواء منها الدينية أم الدنيوية : طلحة بن مصرّف وعيسى بن عمر الهمداني في قراءة القرآن ، مجالد بن سعيد وأبو مخنف ومحمد بن السائب الكلبي (الذي يمكن نسبته إلى مجموعة اليمن)في التاريخ. أما في الشعر فيكفي أن نذكر اسم أعشى همدان ، حتى ندرك مستوى التثاقف الذي بلغه اليمنيون القدماء ، ومدى إسهامهم في الثقافة العربية الإسلامية الكونية.
وحيث إن السلطة كانت تهمّش اليمنيين ، فقد وضعوا عاطفتهم السياسية في الآمال الشيعية التي كانت نوعا من الكونية. وحيث إنهم كانوا مقطوعين عن ماضيهم الثقافي الخاص ، فقد أسهموا إسهاما بالغا ، وفي الأعماق ، في بناء مستقبل ثقافي للعرب المسلمين جميعا ، كما في بناء ماض لهم.