فصارت نقطة تعتمد لتحديد البلاد التي فتحها جيش العراق عملا بالمبدأ القائل إن لكل جيش مجالا ترابيا يصبح ملكا له ومن حقه ومكسبه. فكان مهما أن يعرف من كان حاضرا في تلك الفترة الممتازة التي كانت خلالها المدائن مرحلة ، ذلك أن مثل هذا الحضور كان يعادل حقا مكتسبا في الفيء بمعناه الأكثر اتساعا ، أي الغنيمة لكن أيضا أي مكاسب ثابتة في المستقبل. ومن المدائن تحدد كذلك المجال الذي ستمنحه الكوفة فيما بعد ، بصفتها وريثة للمدائن بالذات. وبهذا المعنى ينبغي فهم قول سيف : «فتوح المدائن السواد وحلوان وما سبذان وقرقيسياء» (١) وهذا القول الآخر : «ولي سعد بن مالك على الكوفة بعد ما اختطت ثلاث سنين ونصفا سوى ما كان بالمدائن قبلها ، وعمالته ما بين الكوفة وحلوان والموصل وما سبذان وقرقيسياء إلى البصرة» (٢). هذا وسنعود إلى طرق مشكل امتداد فتوحات أهل المدائن وقد أصبح أكثرهم من أهل الكوفة (٣) ، لكي ينبغي التأكيد على دور الاستيلاء على المدائن والإقامة فيها كعقدة مجاليّة ـ زمنية في النسق العربي ، ومرحلة لزمنية تاريخية تندرج في تسلسل معين لكنها تفرض مسبقا وجود مجال وحقوق.
جلولاء (١٦ ه / ٦٣٧ م) : المعركة الأخيرة من أجل العراق
كان الاستيلاء على المدائن بلا قتال. أما جلولاء فهي معركة مهمة ، وتكاد تكون حدثا تاريخيا في المشروع العربي الموجه ضد الساسانيين ، ومعركة أخيرة. لا شك في أن الغنيمة كانت أحد الحوافز بالنسبة لبعض الفاتحين ، فقد اكتسبت وقعة جلولاء مظهر الملاحقة وحتى ما يشبه السباق من أجل الملاحقة. لكن كان الأمر بالنسبة للفرس يتعلق بالدفاع عن أملاكهم وحماية العبور إلى الجبال ، وإلا فلا يفهم الغرض من اعتصامهم بهذا المكان قبل لجوئهم إلى النجد الإيراني. كان معسكر جلولاء يشكل نقطة قصوى لتجمع الفرس قبل كارثة تشتتهم الذي نجم عنه خضوع بلدهم (٤).
كانت جلولاء بالفعل آخر مدينة بالسهل في اتجاه الجبال (٥). وكانت مفترقا لطرق الشمال والشرق ، الطرق المؤدية إلى آذربيجان وطريق الجبال فخراسان (٦) فاكتسبت بذلك
__________________
(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٩.
(٢) المرجع نفسه ، ص ٥٠.
(٣) الطبري ، ج ٣ ، ص ٦١٥.
(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٤ ـ ٣٥ ؛ فتوح البلدان ، ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ؛ الأخبار الطوال ، ص ١٢٧ ـ ١٢٩ ؛ خليفة بن خياط ، التاريخ ، ج ١ ، ص ١٠٧ ـ ١٠٨.
(٥) Le Strange ,op.cit.,p.٢٦.p.٢٦.
(٦) الطبري ، ج ٤ ، ص ٢٤.