وتأبّى عليٌّ على القوم ، ورّد الطلب برفق وأناة قائلاً :
« دعوني والتمسوا غيري ، فأنا لكم وزيراً خير مني لكم أميراً ».
وازداد الإصرار ، وتكرر الطلب ، فعاود عليّ الامتناع قائلاً : « اتركوني فأنا كأحدكم ، بل أنا أسمعكم وأطوعكم لم وليتموه أمركم ».
وكان عليّ عليهالسلام زاهداً في الخلافة ، وهو يتطلع إلى الأفق البعيد فيجد المناخ السياسي مضطرباً ، ويلحظ الناس في اندفاع وغضب ، ويشاهد أولي الأمر بين رغبة ورهبة ، ويرى الوازع الديني ضعيفاً ، والعنف الثوري قائماً ، فيقول لهم : « لا حاجة لي في أمركم أيها الناس ، أنا معكم ، فمن اخترتم فقد رضيت به ». ويعجب الجمع من هذا الإباء ، ويعزّ عليهم هذا الرفض القاطع ، ويشعر الإمام بحيرة القوم ، فيعلل لهم سبب امتناعه ، ويوضح علة إصراره :
« دعوني والتمسوا غيري إيها الناس ، إنا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان ، لا تثبت عليه العقول ، ولا تقوم له القلوب ».
وهنا يتجلى البعد السياسي الحصين عند الإمام ، فهو يغوص إلى الأعماق ، وهو يستقرئ الغيب المجهول ، وهو يتوجس من الأحداث القادمة ، ويستخرج دغلها وغشها ودناءتها ، وهو ينفذ إلى خفايا القلوب ويسبر أغوارها فلم يكن ليعجبه الحكم ، وهو مجهول المعالم ، ولم تكن تستهويه الخلافة وهي محفوفة بالتنازع ، وما كان ليستسلم لأهواء الناس وهي مشبوبة العواطف ، وإنما كان يريد أن يخضع لمنطق العقل ويخضع الناس له ، ويحكم بسلطان المنطق ويحمل الناس عليه ، وهو الآن يشاهد الثورة جامحة لا تني ، والاندفاع هادراً لا يهدأ ، والمدينة