شتات أمره في أناة وروية ، وتملك حياة الشاميين بتربص وانتظار ، فما استعجل مجابهة الإمام ، ولا لبّى نداء أهل الشام في الزحف على العراق دون الحيطة التامة ، فهم يتعجلونه وهو يستأني بهم ، وهم يستغيثون به وهو يهدئ نائرتهم ، حتى غلَى المرجل ، واحتدم الغيظ ، وتلبد الأفق ، وهو بهذا قد كسب الوقت بلإعداد ، وكسب الضمائر بالإستهواء.
فعليٌّ عليهالسلام بإزاء خصم عنيد متربّص ، يعمل بحساب دقيق ، ويفكر بنظام رتيب ، وهذا الخصم آمن مطمئن لم يدخل حرباً ، ولم يبذّر طاقة ، وأصحابه في دعة وقوة ، لم يرزأوا مالاً ، ولم يفقدوا رجالاً ، وهو في هذا التأهب وذلك الاطمئنان وإذا بعلي عليهالسلام يطلب منه البيعة ، وأن يأتيه بأشراف أهل الشام ، وكان رسوله إليه جرير بن عبد الله البجلي ، حمّله برسالة تدعوه إلى الطاعة ، والدخول فيما دخل به المسلمون ، فمبايعة الإمام بالخلافة في المدينة تلزم معاوية بالبيعة له وهو في الشام قياساً منطقياً في لغة القوم.
إستغفل معاوية جريراً وكان متهماً ، فلم يكلمه بشيء ، ولم يرد عليه بشيء ، واستمهله الجواب وأخذ يماطله ويطاوله ، ودعا أهل الشام للمشاورة ظاهراً ، ولتأكيد مطالبته بدم عثمان واقعاً ، سلاحاً قوياً في وجه علي يغري به الأغمار ، فهو محرّض لا مشاور ، وهو مقاتل لا مبايع ، حتى استطال الأمر شهوراً ، ثم دعا إليه جريراً وأبلغه أن ليس لعلي عنده إلا السيف ، فرجع جرير بخفي حنين ، وقدم على أمير المؤمنين ، وعظم أمر الشام ، وصوّر له اجتماعهم على الطلب بدم عثمان ، فما حمد له عليٌّ عليهالسلام السفارة ، ولا رضي له مالك الأشتر التبليغ ، وأتهم بممالأة معاوية ، وبتشجيعه على الاستهتار بالجواب ، فما أخذه أخذ حكيم مناظِر ، ولا جابهه مجابهة الرسول الحصيف ، وكثرت