وهم بين فرّ وكرّ ، والإمام بين تهيأة واستعداد لا يريح ولا يستريح ، وما إن تمحق منهم طائفة إلا برزت طائفة ، وما أن يقتل قائد حتى ينبعث قائد آخر ، يجتمع حوله السواد ، ويسير بين يديه السعاة ، والإمام في حرب مستمرة لا يفرغ من بعضها حتى يقع في مثلها.
وكان الخارجون على الإمام وحكمه يتناوبون المهمة واحداً بعد واحد ، ويتهيأون للقتال قائداً إثر قائد ، فقد خرج هلال بن علفة التيمي ، فلمّا قتل هو وفلوله ، خرج الأشهب بن بشر البجلي ، فلما قتل وجنوده ، خرج سعد بن قفل التيمي ، فلمّا قتل وأصحابه ، خرج أبو مريم السعدي ... وهكذا كانت الأمور تجري في حرب داخلية لا أول لها ولا آخر ، يفقد فيها الإمام أنصاره بالأمس وأعداءه اليوم ، ويفيد منها معاوية تثبيتاً للسلطان ، فالخوارج أضروا بدولة الإمام ، والخوارج مهّدوا لدولة أهل الشام شاؤوا أم أبوا.
ثالثاً : ولم يكن الإمام في مأمن من ولاته وعمّاله ، فهم بين من خان الأمانة ، وبين من يرتد على عقبيه جبناً وتردداً ، وبين من تحاك حوله الدسائس فيطلب السواد عزله من الإمام ، وبين متحفظ رضي برفاهية العيش عن مرارة النضال العقائدي ، وهناك القلة الملتزمة التي نصحت وبرّت ، وعموماً لم تكن الإتجاهات المتباينة لترضي الإمام ، فكان في عناء منها أي عناء ، فهو يريد أن يعود بمناخ ولاته إلى عصر النبوة ، وهو يريد أن يكون عماله كعمال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تقوى وورعاً وعدالة ، وهو يريد أن ينهض بهم إلى مستوى المسؤولية ، ويرتفع بأقدارهم عن مزالق الإنحراف والخيانة ، وهو يتابع كل ذلك بنفسه ، ويشرف على تخطيطه عن كثب ، والناس عبيد الدنيا ، وقد ذاقوا طعم التوسع والبذخ والإسراف أيام عثمان ، وابتعدوا شيئاً فشيئاً عن حياة