« أما بعد : أيها الناس ، فإنكم دعوتموني إلى هذه البيعة فلم أردّكم عنها. ثم بايعتموني على الإمارة ولم أسألكم إياها ، فتوثب عليّ متوثبون كفى الله مؤونتهم ، وصرعهم لخدودهم ، وأتعس جدودهم ، وجعل دائرة السوء عليهم. وبقيت طائفة تحدث في الإسلام حدثاً ، تعمل بالهوى وتحكم بغير الحق ، ليست بأهل لما ادعت. وهم إذا قيل لهم تقدمّوا قدماً تقدمّوا ، وإذا أقبلوا لا يعرفون الحق كمعرفتهم الباطل ، ولا يُبطلون الباطل كإبطالهم الحق.
أما أني قد سأمت من عتابكم وخطابكم ، فبينوا لي ما أنتم فاعلون. فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوي فهو ما أطلب وما أحبّ ، وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي عن أمركم أرَ رأيي. فوالله لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين ، لأدعونَّ الله عليكم ثم لأسيرن إلى عدوكم ولو لم يكن معي إلا عشرة. أأجلاف أهل الشام وأغرّاؤها أصبر على نصرة الضلال ، وأشد اجتماعاً على الباطل منكم على هداكم وحقكم؟ ما بالكم وما دواؤكم؟ إن القوم أمثالكم لا ينشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة ».
وقد فعلت هذه الخطبة في النفوس ما لم يفعله أي تحذير وإنذار سابقين ، لأنها بمثابة التهديد النهائي الذي يعقبه التنفيذ العملي ، فاستجاب الناس استجابة متكاملة ، وأنبّ بعضهم بعضاً على الخذلان ، ودفع بعضهم بعضاً إلى الجهاد ، وتلاوم زعماء القبائل ورؤساء الأسباع فيما بينهم ، فأصبحوا اليوم غيرهم بالأمس ، إنها يقظة الضمير بعد طول رقاد ، وإذا بهم يد واحدة مع الإمام بعد أن شحنوا صدره غيظاً ، وملئوا قلبه قيحاً ، إنها إنتباهة من ضيع مجده بيده ، فأخذ يتلافى تقصيره