كانت الواجبات والمحرّمات وسائر الأحكام الشرعية محدّدةً ومعلومةً بصورةٍ عامةٍ وبدهية لكان الموقف العملي المحتّم على الإنسان بحكم تبعيته للشريعة واضحاً في كلّ واقعة ، ولَما احتاج تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة إلى بحثٍ علميٍّ ودراسةٍ واسعة.
ولكنّ عوامل عديدةً ـ منها بُعدنا الزمني عن عصر التشريع ـ أدّت إلى عدم وضوح عددٍ كبيرٍ من أحكام الشريعة واكتنافها بالغموض ، فنشأ نتيجةً لذلك غموض في الموقف العملي الذي تفرضه على الإنسان تبعيته تجاه الشريعة في كثيرٍ من الوقائع والأحداث ؛ لأنّ الإنسان إذا لم يعلم نوع الحكم الذي تقرِّره الشريعة في واقعةٍ ما ، أهو وجوب أو حرمة أو إباحة؟ فسوف لن يعرف طبيعة الموقف العملي الذي يتحتّم عليه أن يتّخذه تجاه الشريعة في تلك الواقعة بحكم تبعيته للشريعة.
وعلى هذا الأساس كان من الضروري أن يوضَع علم يتولّى رفع الغموض عن الموقف العملي تجاه الشريعة في كلّ واقعةٍ بإقامة الدليل على تعيين الموقف العملي الذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة وتحديده.
وهكذا كان ، فقد انشئ علم الفقه للقيام بهذه المهمّة ، فهو يشتمل على تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديداً استدلالياً. والفقيه في علم الفقه يمارس إقامة الدليل على تعيين الموقف العملي في كلّ حدثٍ من أحداث الحياة وناحيةٍ من مناحيها ، وهذا ما نطلق عليه في المصطلح العلمي اسم «عملية استنباط الحكم الشرعي» ، فاستنباط الحكم الشرعي في واقعةٍ معناه إقامة الدليل على تحديد الموقف العملي للإنسان تجاه الشريعة في تلك الواقعة ، أي تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديداً استدلالياً. ونعني بالموقف العملي تجاه الشريعة : السلوك الذي يفرض على الإنسان بحكم تبعيته للشريعة أن يسلكه تجاهها ؛ لكي يفي