فيها الخانات والمدارس لكثرة التجار والطلاب المترددين إليها وتوفر فيها عدد المساجد والمباني الدينية وعظمت ثروة أهلها لما اتصفوا به من العلم ومعرفة التجارة والمهارة في الصنائع فأخذت تكثر فيها الأوقاف المتنوعة بين أهلي وخيري حتى كادت تكون نصف عقارات حلب وأراضيها وقفا على أنه قد فقد من أوقافها في السنين الأخيرة شيء كثير بسبب الدثور أو استيلاء الناس عليه وجعلهم إياه ملكا وأخذه بالإجارتين وتلاعب المتولين بالعقارات وجعلها في يد الأغيار كالملك المطلق بدعوى أنها في أيديهم بطريق المرصد المعروف عندنا بالرقبية (١) وكتلاعبهم أيضا بما في أيديهم من الأوقاف باستبدال عقار بآخر لمنافعهم الذاتية فيستبدلون النفيس بالخسيس والغالي بالرخيص واعلم أن الوقف المشروط للذرية من أحسن الذرائع لطول بقاء شهرة الأسرة واحترام ذراريها وطيب معاشها على شرط أن يكون ريعه منحصرا بأرشد أولاد الواقف أو بطبقة من أولاده الذكور الصلبيين الذين لم تتشعب فروعهم فإن عظماء الإنكليز لا يحصرون ثروتهم بالابن البكر إلا ابتغاء بقاء شهرة الأسرة وحفظ شرفها ولذا ترى في هذه الأمة أسرا مضى على جدها الأعلى مئات من السنين وشهرتها باقية وثروتها متوفرة ومجدها مؤثل كما أنه يوجد عندنا بعض أسر من مرتزقة الأوقاف ساعدتهم الصدف فنالوا هذه المزية وبقي شرفهم متوفرا منذ عدة قرون. فأحسن بالوقف الجاري على هذا الشرط من خير جار ومقصد معقول لولا ما ينشأ عنه في بعض الذريات شيء من الجهل والبطالة والانهماك بالملذات وما يحدث بسببه بين الأقارب من النزاع والشقاق وتفرق الكلمة واستحكام عرى النفور والبغضاء. والأمر الغريب أن كثيرا من الوقوف عندنا اشترط واقفوها أن تكون غلتها مطلقة يتناولها كل من يوجد من ذرية الواقف ذكرا كان أم أنثى سواء كان من أبناء الذكور أم من أبناء الإناث. وبعد أن مضى على ابتداء هكذا أوقاف نحو مائتي سنة مثلا كثرت ذرية الواقف وتشعبت وبلغ عددها على المنوال المذكور زهاء ثلاثة آلاف نسمة فصار يلحق كل واحد من هؤلاء المستحقين من ريع الوقف بضعة قروش في السنة ولصعوبة جمعهم وتوزيع كل حق على مستحقه أو لعدم سؤال المستحق عن حقه إما لجهله به أو لعلمه بأن حقه لا يجديه نفعا ولا يسد له عوزا يستأثر المتولي بجميع الريع ويدلي ببعضه إلى المرتشين ويصرف باقيه في شهواته وهوى نفسه وشيطانه
__________________
(١) الرقيبه : أي تملك الأصل وهذا شائع في الأوقاف.