وهنا «ما يشاء» دون «من يشاء» لمحة إلى واسعة رحمته ومنطلقته في إنشاءه ، فليس يختص خلقه بكم أنتم الناس ، أو أنكم القمة التي لا بديل عنها ف (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (٣٥ : ١٧) (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) (٤ : ١٣٣).
هنا (رَبُّكَ الْغَنِيُّ) ك (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ) وتعريف «الغني» يعرفه انه هو فقط «الغني» حيث «غني» لا يحصر فيه الغنى ، كما الناس محصورون في الفقر ليس لهم إلّا الفقر.
ف (رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) تحصر الغني والرّحمة فيه ، فكلّ غنى ورحمة لأي غني ذي رحمة إنما تنشأ من رحمته وغناه لا سواه.
فالغني الطليق في غناه لا يحتاج إلى عباده أم أية فاعلية ممن سواه ، ولا يحتاج إلى ظلم من سواه ، فإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف في غناه قدرة وعلما ورحمة أماهيه من قضايا غناه.
ولو كان بعض الأغنياء أغبياء يظلمون لا لحاجة وإنما لشقوة وقساوة ، ف (رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) فطليق الغنى والرّحمة يقتضيان كامل العدل والفضيلة ، فلا يفعل أو يقول ما يفعله أو يقول إلّا عن غنى ورحمة ، رحمة لا يطلب بها جزاء لغناه ، وغنى يفيض به لرحمته ، فما هكذا الرّب بحاجة إلى مربوبية أم بحاجة إلى ظلمهم ، إلّا رحمة أو عذابا هو في الحق رحمة تأديبا للمتخلفين وتعديلا في العدل بين المخلوقين.
ذلك ، ومن رحمته أن يكلف عباده بما يكلّفهم ، ومن رحمته إثابة من أطاعه وعقاب من عصاه ، كما من رحمته مزيد الثواب للمطيعين وأقل العذاب للعاصين وقبول التوبة وسائر التكفير للعصات ما هو عدل وفضل خارجا عن أية ظلامة بحقهم وبحق الآخرين.