إذا فليس رشده المؤتى من لدنا «من قبل» فوضى جزاف ، بل انه حلّ محلّه اللائق اللابق ، وذلك هو الرشد الرشيد لمن يبتعثه الله رسولا الى خلقه ، انه يصنعه بعينه ورعايته ، ما يعبّد طريقه الى الرسالة ، منذ أصلاب الآباء وأرحام الأمهات حتى الولادة والطفولة والغلمة البالغة والكهولة والشيخوخة ، فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ، ولكي يأهل لحمل الامانة الكبرى ، متعبا نفسه فيها.
وهذه الآية بما بعدها حلقة رسالية شاخصة في ميادينها تحلّق على تاريخها مقسّمة الى مشاهد متتابعة بينها فجوات ، بادئة بسابق الرشد لإبراهيم في ذلك المسرح الصريح الجريء (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) وباستعداده لحمل الامانة الكبرى التي حملها المرسلون ، وهو صاحب الراية في الطليعة :
(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) ٥٢.
وان بين قاله لأبيه آزر وقاله لقومه ردح من الزمن ، إذ قال لأبيه وهو تحت حضانته وكفالته ولما يبلغ مبلغ الرجال والشباب ليخوض خضمّ المجتمع حتى يكون له قوم ، مهما كان القال نفس القال ، لوحدة المجال ، وداء الشرك العضال.
(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) (١٩ : ٤٣) ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٦ : ٧٤). والتماثيل هي الأشباه ، إذ كانوا يعملون الصور المجسمة الشبيهة بذوات الأرواح ، وهي أشباح بلا أرواح ، وكيف يعكف ذوو الأرواح لما يصنعونه من غير ذوات الأرواح ، وهم لإن يعبدوا لها أحرى من أن يعبدوها ، لأنهم أولاء صانعوها.